الشيخ مسعد الشايب يكتب : وقفات مع ليلة النصف من شعبان
الحمد لله رب العالمين، أعدّ لمَنْ أطاعه جنات النعيم، وسعرّ لمَنْ عصاه نار الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
((وقتها)
فقد علمنا سابقًا أن من مكانة شهر شعبان اشتمالُه على ليلة عظيمة مباركة ألا وهي ليلة النصف من شهر شعبان، وهي الليلة التي تأتي بعد اليوم الرابع عشر منه سواء أكان الشهر تسعة وعشرين يومًا أم ثلاثين يومًا، فمن المعلوم شرعًا أن الليل سابق النهار.
((مكانتها، وفضلها من خلال الأحاديث والآثار))
ليلة النصف من شعبان ليلة عظيمة مباركة، ولله في أيام دهره نفحاتٌ ورحماتٌ وبركات ـ ففضلها ومكانتها غير مستبعد عقلًا، كما أنه واقعٌ شرعًا يدلنا على ذلك ما جاء في فضلها ومكانتها من أحاديث وآثار عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، وصحابته (رضوان الله عليهم)، والسلف الصالح من بعدهم، كالتالي:
- ليلة الرحمة يصبُّ الحق تبارك وتعالى فيها الرحمات، وهذا مستفادٌ من اطلاعه (نظره)سبحانه وتعالى لخلقه، والاطلاع منه سبحانه وتعالى اطلاع رحمة(صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ) (رواه ابن ماجه)، والتعبير بالشرك والشحناء يقاس عليه بقية الكبائر.
- ليلة غفران الذنوب وستر العيوب، لمن خلط عملا صالحا وآخر سيئًا، إلا لأصحاب الكبائر المصرين عليها، ولعل ذلك فرعٌ من فروع الرحمة الربانية في تلك الليلة المباركة، قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ}[سبأ:2]، وقال (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْزِلُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَغْفِرُ لِأَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ شَعْرِ غَنَمِ كَلْبٍ) (رواه الترمذي)، والتعبير بعدد سعر غتم بني كلب مرادًا به الكثرة، كقول العرب: عدد النجوم، وعدد الحصى، وعدد الرمال، والحديث وإن كان ضعيفًا سندًا إلا أن معناه متعضد بأحاديث أخرى كما سيتضح لنا.
- الليلة التي لا يردّ فيها الدعاء، قال (صلى الله عليه وسلم): (إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَقُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا نَهَارَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: أَلَا مِنْ مُسْتَغْفِرٍ لِي فَأَغْفِرَ لَهُ أَلَا مُسْتَرْزِقٌ فَأَرْزُقَهُ أَلَا مُبْتَلًى فَأُعَافِيَهُ أَلَا كَذَا أَلَا كَذَا، حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ) (رواه ابن ماجه)، وهذا الحديث وإن كان فيه مقال فإنه يتعضد بما جاء من نزول ربنا كل ليلة في الثلث الأخير من الليل كما في صحيح الإمام مسلم، فزيادة في الرحمة الربانية، ومن فروع الاطلاع الرباني فيه تنزل رحمته أو ملائكته من غروب الشمس في تلك الليلة المباركة، وعن ابن عمر (رضي الله عنهما): (خَمْسُ لَيَالٍ لَا يُرَدُّ فِيهِنَّ الدُّعَاءُ: لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ، وَأَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبَ، وَلَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَيْلَةُ الْعِيدِ وَلَيْلَةُ النَّحْرِ) (شعب الإيمان).
- ليلة مقادير العام، ففيها تنسخ الملائكة في صحفها مقادير العام من اللوح المحفوظ، فعن عطاء بن يسار ت (94هـ): (تُنْسَخُ فِي النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ الْآجَالُ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ ليَخْرُجُ مُسَافِرًا، وَقَدْ نُسِخَ مِنَ الْأَحْيَاءِ إِلَى الْأَمْوَاتِ، وَيَتَزَوَّجُ وَقَدْ نُسِخَ مِنَ الْأَحْيَاءِ إِلَى الْأَمْوَاتِ) (مصنف عبد الرزاق).
((كيفية إحياء تلك الليلة المباركة))
هذه الليلة العظيمة المباركة لا شك أنها من شهر شعبان، وشهر شعبان يستحب فيه ما يستحب في أيام وليالي رمضان من العبادة والطاعة كما تقدم في مقال سابق استدلالًا بكثرة صيام النبي (صلى الله عليه وسلم) لأيام شهر شعبان، وهدي السلف الصالح إذا رأوا هلال شعبان، وتلك الليلة لا شك أنها من جملة الأيام البيض (القمرية) فيستحب في يومها الصيام ويستحب فيها القيام، والدعاء، والصلاة، والتوبة والأوبة والرجوع إلى (عزّ وجلّ)، وجميع ألوان العبادة والطاعة، وهذا هو الإحياء الأمثل لها، وما ذكر في فضلها ومكانتها من أحاديث يدل على ذلك، وكل هذه العبادات مرغبٌ فيها طوال أيام العام، فلا مانع أن نخصص تلك الليلة بمزيدٍ منها تحريًا لفضلها.
(هل يجوز إحياء تلك الليلة في جماعة))
الجماعة في العبادة عمومًا مستحبة ومطلوبة، ولها فضل وأجر عظيم، وأجر العبادة يزداد بها وخصوصًا في الصلاة كما هو معلوم من قول النبي (صلى الله عليه وسلم)، كما أن جماعية الطاعة والعبادة فيها نوعٌ من سهولة أدائها بخلاف التعبد منفردًا، والأحاديث الصحيحة تطالعنا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يبدأ قيام الليل وإذا بأحد الصحابة يدخل معه في صلاته، ويأتم به كما كان من ابن عباس (رضي الله عنهما)، ومن حذيفة بن اليمان (رضي الله عنهما)، وفضل الذكر في جماعة معروف كما في حديث الملائكة السيارة وحديث الاجتماع في بيوت الله لمدارسة القرآن الكريم.
ومن هنا أقول: لا مانع شرعًا من الاجتماع على العبادة والطاعة في تلك الليلة المباركة، لما تقدم من أدلة عقلية ونقلية على ذلك، كما أن هذا هو عمل السلف الصالح (رضوان الله عليهم) في مكة وغيرها، يقول الإمام الفاكهي مسند مكة، وشيخ الإمامين الدارقطني والحاكم ت(353هـ): (ذِكْرُ عَمَلِ أَهْلِ مَكَّةَ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَاجْتِهَادِهِمْ فِيهَا لِفَضْلِهَا وَأَهْلُ مَكَّةَ فِيمَا مَضَى إِلَى الْيَوْمِ إِذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، خَرَجَ عَامَّةُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَصَلَّوْا، وَطَافُوا، وَأَحْيَوْا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى الصَّبَاحَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، حَتَّى يَخْتِمُوا الْقُرْآنَ كُلَّهُ، وَيُصَلُّوا، وَمَنْ صَلَّى مِنْهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِائَةَ رَكْعَةٍ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِالْحَمْدُ، وَقُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ، وَأَخَذُوا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَشَرِبُوهُ، وَاغْتَسَلُوا بِهِ، وَخَبَّؤُوهُ عِنْدَهُمْ لِلْمَرْضَى، يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ الْبَرَكَةَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَيُرْوَى فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ) (أخبار مكة).
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: (وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها… واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين:
أحدهما: أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد كان خالد بن معدان ولقمان بن عامر وغيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم ويتبخرون ويكتحلون ويقومون في المسجد ليلتهم تلك ووافقهم إسحاق بن راهوية على ذلك وقال في قيامها في المساجد جماعة: ليس ببدعة نقله عنه حرب الكرماني في مسائله.
والثاني: أنه يكره الاجتماع فيها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه وهذا قول الأوزاعي إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم) (لطائف المعارف).
قلت (ابن الشايب): وتقليد من أجاز إحيائها في جماعة جائز وهو الأرجح عندي كما تقدم.
((دعاء ليلة النصف والصلاة المئوية فيها))
ليلة النصف من شعبان هي ليلة إجابة الدعاء كما تقدم، ومن هنا أقول: الدعاء في ليلة النصف من شعبان مستحبٌ ومندوب، وهو أحد العبادات التي ينبغي أن نحيي بها تلك الليلة المباركة.
ولا يؤثر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) دعاءٌ في تلك الليلة، فللمؤمن أن يدعو بأي دعاء يتأتى له، والدعاء المبدوء بقولهم: (اللهم يا ذا المن…) دعاءٌ طيب وجميل ملئ بالتضرع إلى الله والثناء عليه بما هو أهله، وقد روي قريب منه عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) كما في مصنف بن أبي شيبة وغيره، فلا مانع منه.
أما عن الصلاة المئوية فيها، وإن نقل الإمامان الغزالي والفاكهي كيفيتها وصلاتها إلا أن الحقيقة العلمية أنها لم تنفل بسندٍ لا صحيح ولا ضعيف عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أو أحد صحابته أو التابعين، وهو تخصيص بعدد ركعات لا دليل عليه، وقراءة معينة فيها لا دليل عليها، فالأولى والأرجح عدم صلاتها.
ولا مانع عندي: من إحياء هذه الليلة بصلاة الحاجة ثلاث مرات فهي مسنونة، ويسأل الله تعالى البركة في العمر، ثم في الثانية يسأل البركة في الرزق، ثم في الثالثة حسن الخاتمة، فالليلة ليلة الدعاء، ولا مانع أن يقرأ سورة (يس) بعد كل مرة ويدعو بالدعاء المشهور، فسورة (يس) لما قرئت له، ولا تقرأ على عسير إلا يسره الله (عزّ وجلّ)