أحمد عفيفي يتذكر : ضربت عبد الحليم ( كتف ) فقام وطلب مني أقرأ قارئة الفنجان

كنت وانا طالب في كلية الاعلام بتدرب في مجلة روزاليوسف .. وزي ماقلت لكم كنت بلف على الاستديوهات ومكاتب المنتجين أكتر ما بروح الكلية ، وكنت تقريبا كل اسبوع أروح مكتب صوت الفن اللي في شارع عدلي ودي مملوكة لعبد الوهاب وعبد الحليم .. وكان مدير المكتب الاستاذ مجدي العمروسي الصديق الصدوق لعبد الحليم حافظ ، وكان هو المسؤول عن الافلام والتسويق والمسائل دي .. فكنت أروح له واخد منه أخبار وصور انشرها في المجلة.
كان العمروسي بيحبني جدا وبيقابلني دايما بود جميل ، وكنت في كل مرة اقوله : نفسي أقابل عبد الحليم .. ماتساعدني يا استاذ مجدي .. لأنه استحالة يقابل صحفي صغير تحت التدريب .. فكان يرد : صعب يا احمد ، حليم دماغه فيها مليون حاجة ، فاضطر اسكت واقوله مكتفيا : طيب وحياة ولادك ابقى سلم عليه وقوله اني بحبه جدا ومنى عيني بس ان اقعد معاه ولو دقيقتين .. فكان يرد : ان شاء الله.
وفى مرة كنت عند الاستاذ العمروسي ، قعدت يجي ربع ساعة واخدت منه كام خبر وقمت ماشي ، وانا خارج من المكتب معرفش كان بيقولي ايه ، وانا برد عليه وماشي في الطرقة بتاعت الشقة وباصص ورايا وانا ماشي لقدام .. ” وهبّه ” ، قمت خابط بكتفي خبطة جامدة جدا وانا مش واخد بالي خالص واحد كان داخل للعمروسي ، جسمه صغير جدا ونحيف وقصير .. ولسه بقوله : انا اسف حقك عليا ،.. لقيته قام قايل : خلاص بسيطة ، وراح مكمل مشيه وايده على كتفه اللي انا خبطته و دخل على مكتب العمروسي.
انا كنت متلخبط بجد .. بس وقفت لحظة وبصت له وهو مديني ضهره ، ولقتني بقول في نفسي : نهار اسود .. ده عبد الحليم!
وانا خارج من الشقة بسأل السكرتيرة وانا مذهول : ده عبد الحليم حافظ ؟ .. ردت : أيوه يا استاذ .. ابقى خد بالك وانت ماشي.
طيب اعمل ايه ؟ .. امشى ولا ارجع ولا اهبب ايه بالضبط ..؟ كنت واقف مستني الاسانسير .. واول ما الباب فتح ، رحت راجع تاني وواخد طريقي لمكتب العمروسي .. السكرتيرة وقفّتني : رايح فين .. الاستاذ جوّه .. مينفعش.
قلت لها : حادخل اتأسف له .
ردت : خلاص محصلش حاجة .. مع السلامة .
قلت لها : طيب قولي للاستاذ العمروسي اني لسه بره وعايزه.
ردت بغتاتة : ما انت كنت عنده .. عايزه في ايه تاني ؟
غصب عني رديت : ياستي وانتي مالك .. متقوليله وخلاص.
بغيظ بصتلي وراحت رافعة السماعة : استاذ مجدي .. الصحفي بتاع روزاليوسف لسه هنا وعايزك في حاجة .
مسمعتش طبعا رد عليها بإيه .. لكن لقيتها ووشها مقلوب بتقوللي وهى بتشاور لاتجاه المكتب : اتفضل.
” واحدة واحدة بقى وانتبهوا للكلام اللي جي .. لأنه كلام كبير أوي “
دخلت اقدم رجل وأخّر رجل ، لولا صوت العمروسي بطيبته : تعالى يا احمد اتفضل .. اقعد.
قمت سلمت على عبد الحليم وقلت له : انا راجع اتأسف لحضرتك .. وأرجوك سامحني.
العمروسي مش عارف انا بتأسف على ايه فسأل : خير هو حصل إيه ؟
قام عبد الحليم رادد : أصل الاستاذ وهو خارج إداني كتف ، كان حيكفيني على وشي.. قالها وهو يبتسم.
العمروسي ضحك وقال : معلش غصب عنه أكيد .. ده حيموت ياحليم عشان يقابلك ويسلم عليك .. رد عبد الحليم : وهو عشان حيموت يقابلني يقوم يموتني أنا؟!
وقعدت .. الساعي جاب كوباية ميه لحليم .. وانا قاعد متكوم ع الكرسي ، لقيت عبد الحليم بيقول للساعي : شوف الاستاذ يشرب ايه.
بخجل شديد : لا .. تسلم .. انا شربت شاى وقهوة قبل حضرتك ماتيجي .
عبد الحليم قاعد يتكلم مع العمروسي وانا ساكت .. لقيته بيقوله : خايف اوي يامجدي من القصيدة .. صعبة اوي
رد العمروسي : ياسيدي ولا يهمك .. جمهورك حيقبلها حتى لو مفهمهاش.. بس المهم .. نزار غيّر الكلام اللي طلبته منه ؟
رد : بالعافية .. كان معاند وانت عارفه .. دماغه راكبة شمال.. بس ” دبّست ” الموجي معاه وعرف يقنعه.
” أنا قاعد زي الأطرش في الزفة .. مش فاهم حاجة .. قصيدة ايه ونزار ايه وخايف ليه ودبّست الموجي ودماغه راكبة شمال .. ومع ذلك مش قادر اتكلم واقاطعهم. “
العمروس قال : بص ياحليم اللي تخاف منه ميجيش احسن منه .
لقيت عبد الحليم بيسألني : إيه رأيك يا استاذ .. وبعدين سألني : هو انت اسمك ايه؟
أنا ؟ .. احمد .. أنا اسمي أحمد.
سأل : تعرف نزار قباني ؟
قلت : طبعا اعرفه .
قريت له ايه؟
رديت : بصراحة مش كتير .. بس اعرفه من قصايده ايظن وماذا اقول له لنجاة.. شعره جميل وسهل .. ومفهوم.
قام حليم باصص للعمروسي : خد بالك من كلمته .. “ومفهوم ” .
” في نفسي بردد على طريقة عادل امام : هى مفهوم دي حاجة أبيحة ولا حاجة .. ايه خد بالك من مفهوم دي؟ “
سألني عبد الحليم : قريت له شعر سياسي؟
قلت : بصراحة لأ .. هو له في الشعر السياسي؟ …. ” كنت صغير جدا وقتها ومش مثقف كفاية ومكنتش اعرف عن نزار قباني غير انه شاعر المرأة والفراش “.
طيب امسك الورقتين دول واقراهم .. ده عبد الحليم اللي بيطلب مني ده.
سألته بسذاجة : بتوع إيه دول ؟
قام ضاحك وقال : بتوع المغص .. حيريحوك .. ياعم بص واقرا.
مسكت الورقتين .. وعبد الحليم بيقوللي : اقرا وسمعني.
قلت له : مكتوب في وسط السطر قصيدة قارئة الفنجان
ضحك : لا والله .. نورت المحكمة .. طيب ما انا عارف .. اقرا.
حاولت بصراحة استجمع شجاعتي شوية واستوعب الموقف .. انا وعبد الحليم وجها لوجه وبينا العمروسي .. ” فرصة عمرك ولقيتها ، خايف ليه ومضطرب .. انا اللي بتكلم مع نفسي “
.. وبدأت اقرا : جلست والخوف بعينيها تتأمل فنجاني المقلوب .. قالت ياولدي لا تحزن .. فالحب عليك هو المكتوب. وسكت وبصيت لعبد الحليم وقلت له .. أكمل ؟
رد : أيوه
يا ولدي قد مات شهيدا .. من مات فداء للمحبوب .. ورحت معلّق وبدأت اثبت شوية واركز واتكلم بشىء من الثقة : شهيدا .. يعني انا لو حبيت واحدة ومت .. ابقى شهيد؟ مكنش حد غلب وكنا كلنا ضمنا الجنة.
.. عبد الحليم ضحك وبص للعمروسي وقال له : صعبة يامجدي أوي .. وراح مشاور عليا وقال له : هو معذور.
بجرأة المرة دي سألته : استاذ حليم ..
انا مش فاهم حاجة.
قام واخد مني الورقة وقال لي : طيب اسمعنى وركّز شوية .. راح قايل : فحبيبة قلبك ياولدي نائمة في قصر مرصود .. من يدخل حجرتها .. من يطلب يدها .. من يدنو من سور حديقتها.. من حاول فك ضفائرها .. ياولدي .. مفقود مفقود مفقود.
بدأت انتبه والكلام يشدني ويروح بيا في حتة بعيدة ومعنى أعمق.. وقلت لحليم : بعد إذن حضرتك .. ممكن الورقة.
اتفضل ..
قريت : ستفتش عنها ياولدي في كل مكان .. وستسأل عنها موج البحر وتسأل فيروز الشطآن .. وتجوب بحارا وبحارا وتفيض دموعك انهارا .. وسيكبر حزنك حتى يصبح أشجارا أشجارا .. وسكت وانا مشدود شدة للكلمات .. وسألت عبد الحليم : إيه ده؟
فقاللي : كمّل .
وسترجع يوما ياولدي مهزوما مكسور الوجدان .. وستعرف بعد رحيل العمر .. بأنك كنت تطارد خيط دخان … وسكت وكل علامات الاستفهام مالية وشي .. فقالي : سكت ليه كمّل للأخر.
.. فحبيبة قلبك ليس لها أرض أو وطن أو عنوان .. ما أصعب ان تهوى امرأة ياولدي ليس لها عنوان.
…. فهمت حاجة؟ عبد الحليم بيسألني.. رديت : يعني .. بس مستغرب جدا .. مين دي وشكلها إيه اللي مالهاش لا ارض ولا وطن ولا عنوان؟
عبد الحليم : كويس .. مادام استغربت يبقى دماغك اشتغلت .. وراح قايل لي : نزار قباني شاعر كبير وبعيد عن الشعر اللي الناس عارفينه عنه ، دماغه في السياسة توزن بلد.
وقام قايم وسلم عليا وقاللي فرصة سعيدة .. وبص للعمروسي وقال له : لو ماوركش حاجة .. ابقى عدّى عليا بالليل.
ومشي حليم .. وانا دماغي تودي وتجيب : نزار قباني عايز يقول ايه من قارئة الفنجان!!!
” ملحوظة .. بعد المقابلة دي قريت ديوان نزار قباني : ” هوامش على دفتر النكسة ” وقعدت استرجع كلمات قصيدة ” قارئة الفنجان ” كأني حفظتها .. ولحد الوقت ده في سنة 75 تقريبا ، – مش حاكدب عليكم – مكنتش فاهم أبعاد الحكاية بالضبط .. بس اللي كنت واثق منه وقتها .. ان استحالة يكون نزار قباني قاصد إمرأة .. مجرد امرأة .. واحد حبّها ، حتى لو كان الواحد ده .. عبد الحليم!!!