تقارير

لماذا ترفض تركيا الاعتراف بجريمتها بحق الأرمن؟

تخشى تركيا من فتح باب قد لا يغلق إلا بصعوبة، فالاعتراف بما وقع للأرمن من إبادة جماعية بداية القرن الماضي سيؤثر سلبا على شعور الفخر بالهوية التركية، وسيحيي جراحا لمذابح أخرى ارتكبتها القوات العثمانية.

ولذلك ترفض تركيا بشكل قاطع أيّ محاولة لتصنيف مذابح الأرمن في عهد الامبراطورية العثمانية كإبادة جماعية، وردت على لسان المتحدث الرئاسي على الإعلان الأمريكي في هذا الصدد بأنه “أمر مشين لا تدعمه حقيقة تاريخية”، مؤكدة أنها ستلجأ إلى ردود أخرى.
تعترف تركيا بوقوع مجازر ووقوع ضحايا أرمن، لكنها تقول إن الرقم لا يتجاوز 300 ألف، وإن ذلك وقع في فترة حرب، فضلا عن أنه لا يرقى للفظ “إبادة جماعية” حسب تعبيرها. تحاكم أنقرة على استخدام هذا اللفظ داخليا بموجب المادة 301 من قانون العقوبات المجرّم لإهانة الهوية التركية.

ولعل من الأسباب الكبرى التي تدفع أنقرة إلى إنكار وجود إبادة جماعية، وفقاً لإسماعيل عزام على موقع “دويتش فيليه”، هو أن ذلك يسيء إلى تاريخها حسب ما يعتقد حكامها، ليس فقط الحكومة التركية، بل فئات واسعة للغاية من الشعب التركي. سبق أن صرّح المؤرخ التركي تانر أكام لنيويورك تايمز، أنه ليس من السهل لأمة أن تصف مؤسسيها بأنهم قتلة ولصوص، وذلك نظرا لكون العديد من قادة الجمهورية التركية الوليدة، -ليس منهم أتاتورك- كانوا مهندسين بالفعل لما وقع من مذابح، وعدد منهم اغتنوا من مصادرة أملاك الأرمن.

يتشبث الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بالجذور العثمانية لتركيا الحديثة ويتحدث عنها بكثير من الفخر، واستقبل بحفاوة كبيرة الحكم القضائي بتحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد كما كان عليه الحال في الفترة العثمانية. كذلك، يدافع أردوغان بقوة عن تعليم اللغة العثمانية القديمة في المدارس، كما عزز الطموحات الخارجية لبلاده بتوسيع النفوذ العسكري والاقتصادي بشكل يحيي إرث الإمبراطورية العثمانية حتى لو أدى ذلك إلى صدام مع قوى أخرى، فضلا عن محاولته تعديل الشكل العلماني لتركيا وإعادتها إلى ماضيها الإسلامي. يمكن القول إن أردوغان هو أحد أكثر رؤساء تركيا رفضا لوصف مذابج الأرمن بالإبادة ما دام ذلك يؤثر سلبا على سياسته التي تفتخر بتاريخ تركيا.

تتحدث تركيا كذلك عن أن الأتراك تعرضوا بدورهم لعمليات قتل جماعية من قبل “عصابات أرمينية”، وتقول وكالة الأناضول إن الروس وبعد انسحابهم من الحرب، سلحوا المقاتلين الأرمن بعتاد قوي، ما أتاح لهؤلاء ارتكاب مجازر ضد المدنيين العثمانيين. تتحدث الوكالة كذلك عن أن هناك توثيقا لمقتل 47 ألف شخص في مدينة قارص أوائل القرن الـ20، وفي فترة أخرى قُتل 17 ألف في المدينة نفسها، وكذلك قُتل 50 ألفا في أرضروم، وآلاف آخرين في مناطق أخرى.

تتحدث رويترز عن مقتل 1,5 مليون أرمني عام 1915 على أيدي العثمانيين، خلال الحرب العالمية الأولى التي شاركت فيها الامبراطوية العثمانية مع ألمانيا وامبراطورية النمسا-المجر ضد قوات الحلفاء، وذلك عندما قُتل مئات المثقفين الأرمن وأبعد الآلاف من شرق الأناضول، انتقامًا منهم لتشكيل مجموعات قتالية كانت تدعم الجيوش الروسية.

يقول المؤرخ توماس دي وال من مركز كارنيجي لنيويورك تايمز “من الواضح أنه كان هناك ثوار أرمن ومتمردون يحاولون دعم روسيا، إلّا أننا أمام عقاب جماعي بسبب عدم الولاء المتصوّر لفئة قليلة”.

إلا أن المجازر بدأت قبل ذلك، وتحديدًا منذ أواخر القرن التاسع عشر عندما بدأ الأرمن في إعلان نواياهم بالحكم الذاتي أو تشكيل دولة خاصة، إسوة بكثير من الأعراق التي شرعت في التعبير عن طموحاتها الوطنية. واجه العثمانيون هذه المطالب بالقمع، مستعينين بمجموعات قتالية كردية، ووقعت مذابح ما بين عامي 1894 و1896 في شرق الأناضول، كما قتلُ آلاف آخرون في إسطنبول عام 1896 ردا على استيلاء الثوار الأرمن على البنك العثماني، وفق رويترز.

هناك جانب آخر يخص تخوّف تركيا من احتداد المطالب الأرمنية بتلقي تعويضات. فقد صرح رئيس البرلمان التركي الأسبق جميل جيجك أن بعض الأرمن من أصول تركية يرفعون دعاوى قضائية ضد تركيا في المحاكم الأمريكية منذ مدة. يشير تقرير لموقع المونيتور إلى أن هناك دعوى رفعت منذ عام 2010 ضد تركيا تطالب بـ65 مليون دولار كتعويض. رفضت المحكمة النظر في القضية لعدم تصنيف واشنطن آنذاك المذابح بأنها إبادة جماعية، لكن مع القرار الجديد لجو بايدن، سيكون لرافعي هذه الدعاوى سند كبير.

يتعلق جانب آخر للرفض التركي بالعلاقة المتوترة بين تركيا وأرمينيا. فقد انهارت كل محاولات الصلح بين الدولتين الجارتين، وزاد التوتر مؤخرا بعد الدعم التركي الكبير لأذربيجان في حرب إقليم ناجورنو كاراباخ. وبالإضافة إلى الجدل الدائر حول الإبادة الجماعية، هناك خلافات كبيرة أخرى بين الطرفين خاصة حول مسائل حدودية، ونتيجة لذلك لم يتم تطبيع العلاقات بشكل كامل بين الدولتين.

ومن أكبر مخاوف تركيا أن يدفع الاعتراف بالإبادة الجماعية دولا وجماعات أخرى لتبني مطالب مماثلة، مثل المذابح التي تعرّض لها الآشوريون/السريان على يد القوات العثمانية والجماعات المتعاونة معها. السريان هم مجموعة مسيحية تسكن تاريخيا في مناطق ما بين العراق وإيران وتركيا وسوريا، وتقول تقارير إن عدد القتلى في تلك المذابح قد يصل إلى ربع مليون قتيل، وسبق للرابطة الدولية لعلماء الإبادة الجماعية أن اعترفت بتلك المجازر وصنفت على أنها إبادة الجماعية.

مذبحة أخرى اعترفت بها هذه الرابطة تخصّ ما يعرف بالإبادة الجماعية لليونانيين أو إبادة البنط مباشرة بعد إبادة الأرمن، وهو الاعتراف الذي أعلنته برلمانات دول أوروبية. ولا يزال عدد الضحايا غير معروف بشكل دقيق، حيث يتراوح عددهم ما بين نصف مليون وأكثر من مليون قتيل. يبقى هذا الملف حاضرا بقوة في العلاقات التركية-اليونانية المتوترة، وتطالب أثينا، التي تحيي بشكل سنوي ذكرى هذه المذابح، أنقرة بالاعتراف بما جرى وتصنيف ذلك إبادة جماعية، بينما تنفي أنقرة أن تصل الأحداث إلى هذه الدرجة وتتهم بدورها أثينا بارتكاب مذابح وإبادة جماعية في تلك الفترة كما جرى لألبان منطقة شاميريا.

زر الذهاب إلى الأعلى