بقلم : د. وائل فؤاد – مدرس الأدب والنقد بجامعة الأزهر
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد :
فإن الشجاعة من أكرم الخصال التي يتصف بها الرجال، فهي عنوان القوة، وعليها مدار إعزاز الأمة، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، فالشجاعة صفة لا يتحلى بها إلا الأقوياء الذين لا يأبهون الخوف، ولا يجعلون الخور والضعف ديدنهم .
والشجاعة كما يعرفها ابن القيم: “هي ثبات القلب عند النوازل”، ونبينا محمد “صلى الله عليه وسلم” كان أشجع الناس على الإطلاق، والسيرة النبوية مليئة بالمواقف الدالة على مدى شجاعته وقوته، تلكم الشجاعة والقوة التي تجلَّت في أروع صورها جهادا في سبيل الله، وثباتا عند الشدائد والنوازل، ودفاعا عن الحق ونصرة للمظلومين، وقد شهد له بذلك أصحابه وأعداؤه، إذ كان صلوات الله وسلامه عليه من الشجاعة بالمكان الذي لا يُجهل، حضر المواقف والمعارك الصعبة، وهو ثابت لا يتزحزح .
وما أحوجنا في هذه الأيام أن نتدارس شيئا من شجاعة النبي “صلى الله عليه وسلم” نظرا لما نراه يحدث في المجتمع من تخاذل وجبن وتكاسل بين الناس، فعندما تحدث مشكلة تجد الكثير يخاف أن يتدخل ولو بكلمة، حتى أصبح الخوف متمكنا في الكثير من الأمور، متمكنا من الناس في أعمالهم في حياتهم اليومية، وأصبح الخوف شيئا غير عادي، ومن هنا كان علينا الرجوع إلى سيرة النبي “صلى الله عليه وسلم”؛ لنأخذ منها جرعة من الشجاعة، فنبينا محمد “صلى الله عليه وسلم” كان أشجع الخلق، قال الله تعالى ” لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ” الأحزاب ٢١ .
فإذا وضعت في موقف يستدعي التدخل تدخل بشجاعة بقوة بحكمة، كما كان نبينا محمد “صلى الله عليه وسلم” يفعل ذلك .
وها هو ذا الإمام علي “رضي الله عنه” يحدثنا عن شجاعة النبي “صلى الله عليه وسلم” وإقدامه في الغزوات والحروب ، فقد كان الصحابة “رضي الله عنهم” إذا حمي الوطيس واشتد البأس يحتمون برسول الله “صلى الله عليه وسلم” يقول الإمام علي رضي الله عنه : ” كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه ” رواه أحمد .
وقوة النبي “صلى الله عليه وسلم” وشجاعته لم تكن في غير محلها، فهذه السيدة عائشة “رضي الله عنها” تقول: ( ما ضرب رسول الله “صلى الله عليه وسلم” بيده شيئا قط، ولا امرأة ولا خادما، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل) رواه مسلم .
وعن جابر بن عبد الله “رضي الله عنه” قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غَزَاة قِبَلَ نَجْد، فأَدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القائلة في واد كثير العِضَاهِ (شجر فيه شوك)، فنزل رسول الله “صلى الله عليه وسلم” تحت شجرة فَعلّق سيفه بِغُصْن مِن أغصانها، وتفرّق الناس في الوادي يستظلون بالشجر .. قال: فقال رسول الله “صلى الله عليه وسلم” : إِنَّ رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي، والسيف صَلْتا (مسلولا) في يده فقال: مَن يَمْنَعُكَ مني؟ قلت: الله، فشامَ السيف (رده في غِمْده)، فها هو ذا جالِس، ثم لم يعرِض له رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم.
قال ابن حجر في فتح الباري: “وفي الحديث فرط شجاعة النبي “صلى الله عليه وسلم” وقوة يقينه، وصبره على الأذى، وحلمه عن الجهال”.
وقال ابن كثير في البداية والنهاية: “وقد روى أبو بكر الشافعي بإسناد جيد عن ابن عباس “رضي الله عنه” : أن يزيد بن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي “صلى الله عليه وسلم” ثلاث مرات، كل مرة على مائة من الغنم فلما كان في الثالثة قال: يا محمد، ما وضع ظهري إلى الأرض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إليَّ منك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله “صلى الله عليه وسلم” فقام عنه رسول الله “صلى الله عليه وسلم” وردَّ عليه غنمه”.
وفي يوم أحد، يوم أن خالف الرماة أمر رسول الله “صلى الله عليه وسلم” وسيطر المشركون على زمام المعركة، لم يتزحزح النبي “صلى الله عليه وسلم” من موقفه، بل وقف موقف القائد القوي الشجاع، والصحابة من حوله يتساقطون، وحُوصر “صلى الله عليه وسلم” من قبل المشركين، ولم يكن حوله إلا القلة من الصحابة يدافعون عنه، وبرز منهم سعد بن أبي وقاص “رضي الله عنه” حينما دعاه رسول الله فناوله النبال وقال له: ( ارم يا سعد، فداك أبي وأمي ) رواه البخاري .
ويكفي المؤمن الشجاع شرفا أن الله يحبه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله “صلى الله عليه وسلم” : ( المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ) رواه مسلم .
وحين تآمر كفار قريش على قتل النبي “صلى الله عليه وسلم”وأعدوا القوة والرجال لذلك، حتى أحاط بمنزله قرابة الخمسين رجلاً، فثبت عندها رسول الله، ولم يُصبهُ الخوف، بل نام ولم يهتم بشأنهم، ثم خرج عليهم في منتصف الليل بشجاعة وقوة، حاثياً التراب على وجوههم، ماضياً في طريقه، مخلفاً علياً مكانه.
ويكفي الجبان مذمة أن رسول الله “صلى الله عليه وسلم” كان كثيراً ما يتعوذ من هذه الصفة، فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم دعوات لا يَدَعْهن ومنها: ( اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وغلبة الرجال ) رواه البخاري .
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًَا سَلِيمًَا، وَلِسَانًَا صَادِقًَا، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ .