مقالات

الحائرون بين جنتى الأرض والسماء


الكاتب أ / نشأت الديهي

عندما كتب توفيق الحكيم روايته الشهيرة «عصفور من الشرق» وكتب يوسف ادريس روايته «السيدة فيينا» وكذلك رواية الاديب السودانى الطيب صالح «موسم الهجرة الى الشمال» كان لكل منهم سردية مختلفة لعقدة روائية واحدة وهى ما نطلق عليه صراع الحضارات والتباين فى الثقافات والانحيازات لمملكتى الأرض والسماء، ربما جاءت العولمة بأظافرها الجارحة لتحاول أن توفى هذا الذى اعتبرته عبثا فكريا يعكس فقرا نخبويا، وربما رحلت العولمة طريدة وغير مأسوف عليها بعدما تعرضت للتوبيخ والتقريع داخل المجتمعات الغربية التى اخترعتها وقدمتها كوجبة علاجية للمجتمعات الشرقية، وبرحيل العولمة أو حتى انحسارها وخفوتها سيعود السجال مجددا بين الشرق بحضارته وثقافته ومرجعياته وبين الغرب بثقافاته المغايرة، فالشرق يظن انه وريث مملكة السماء والغرب يقبل هذا على شرط أن يكون هو وحده صاحب مملكة الأرض دون مزاحمة، الغرب يسوق فكرة أن ما لا يحصل عليه الآخرون فى الارض سيحصلون عليه فى السماء ويبررون بذلك الكثير من فعالهم تجاه الشرق والجنوب سواء حقب الاستعمار أو الحروب المدمرة أو حتى الظلم البين، والشرق ينظر فى حيرة من أمره بين معتقداته الراسخة وواقعه شديد الهشاشة وينتظر عدالة السماء، ربما وجدت هذا الحوار الذى يستحق التأمل والتدبر بين شخوص رواية الحكيم «محسن الشرقى المحافظ وايفان الشيوعي» يعكس حقيقة العقدة الحضارية والفكرية التى حاول الحكيم وادريس وصالح تفكيكها عبر رواياتهم الشهيرة يقول ايفان لمحسن «إن المسئول عن انهيار مملكة السماء هم رجال الدين أنفسهم»!.. أولئك كان ينبغى لهم أن يتجردوا من كل متاع الأرض، ويظهروا فى زهدهم بمظهر المنتظر حقاً لنعيم اَخر فى السماء.. لكنا نراهم هم أول من ينعم بمملكة الأرض، وما فيها من أكل طيب يكنزون به لحماً، وخمراً معتقاً ينضح على وجوهم المورة، وتحت إمرتهم : السيارات يركبونها، والمرتبات يقبضونها !.. 
إنهم يتكلمون عن السماء، وكل شيء فيهم يكاد ينطق بأنهم يرتابون فى جنة السماء، وأنهم متكالبون على جنة الأرض. 
هؤلاء هم وحدهم الذين شككوا الناس فى حقيقة مملكة السماء …
إن كل ما بناه الأنبياء بزهدهم الحقيقي، وجوعهم، وعريهم، مما أقنع الناس بأن هؤلاء الرسل هم حقاً ينتظرون شيئاً فى العالم الاَخر.. جاء هؤلاء فدمروه! وكانوا أقوى دليل على كذب مملكة السماء، وخير دعاية لمملكة الأرض.. وأنسوا الناس بانغماسهم فى هذه الحياة، أن هنالك شيئاً اَخر غير هذه الحياة!

زر الذهاب إلى الأعلى