مقالات

المصريون لا يقبلون الهزيمة..!!

الكاتب أ / علي هاشم

نحتفل بعد أيام بمرور خمسين عامًا على أعظم انتصار عسكرى فى العصر الحديث؛ نصر أكتوبر المجيد ..ما أرجوه هذا العام أن يكون احتفالنا بهذا النصر غير تقليدى.
والسؤال: ما أهم أسباب تجاوز المصريين للحاجز النفسى الذى خلقته احداث 67 وصولاً لقمة الإعجاز البشرى بتحويل الهزيمة لانتصار ما بعده انتصار ..؟!
رأيى أن السبب الأهم يكمن فى وحدة الصف على قلب رجل واحد؛ رفضنا الاستسلام لما حدث فى 67 وتعايشنا مع تداعياتها المرة بإيمان ويقين بأن النصر قادم لا محالة؛ ذلك أن روح المصريين لم تفرٍّط (بتشديد الراء) فى الأمل بل تمسكوا بما هو أبعد من استرداد الأرض؛ وقف المصريون قبل وأثناء الإعداد للحرب وفى الساعات الحاسمة للمعركة الكبري، صفًا واحداً خلف جيشهم وقيادتهم؛ حتى إن أقسام الشرطة لم تسجل أيامها حالة سرقة واحدة وهو ما يعكس حالة توحد مع الوطن وانشغال به والتفاف غير مسبوق حول رايته وانتماء بلا حدود لترابه .. لقد بلغت الشخصية المصرية وقتها ذروة الإيجابية سواء أثناء حرب الاستنزاف التى استمرت نحو 6 سنوات ، استطاعت خلالها قواتنا المسلحة الباسلة بمساندة شعبية قوية أن تتخطى حاجز الهزيمة، وأن تعبر قناة السويس، لتدك المواقع الإسرائيلية، بل وتعود بأسرى إسرائيليين كانوا سببًا فى توهين نفسية الجندى الإسرائيلى على خطوط القتال.
لماذا توقفت السرقات وتراجعت معدلات الجرائم، وعلا صوت المعركة وانطفأت الغرائز والشهوات والأنانية وتوهجت الروح المصرية العبقرية التى شيدت حضارة عريقة ضاربة بجذورها فى التاريخ الإنساني.
لماذا وحدتنا المعارك فى أكتوبر بينما فرقتنا أطماع السياسة بعد أحداث يناير التى صاحبها وتلاها انقسام اجتماعى واستقطاب حاد فرّق الصف الوطنى ومزق وحدة الجبهة الداخلية.
فى الذكرى الخمسين لنصر أكتوبر ينبغى أن نقف مع النفس وقفة مراجعة وحساب وعبرة نستخلص منها الدروس والعبر، ونجيب عن أسئلة أظن أن الإجابة عنها بصورة علمية موضوعية ستكون مفتاحًا وبداية لازمة للخروج من أزماتنا والعودة بالشخصية المصرية لعطائها الحضارى وإسهامها المتميز فى مسيرة الحضارة العالمية. 
وعلينا ونحن نسترجع ذكريات نصر أكتوبر المجيد أن نستحضر مشهد النصر حيًا طازجاً قبل.. ويكفينا هنا أن نستحضر مثلاً عبارات جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل وقتها والتى قالت : ««سأظل أحيا بهذا الحلم المزعج لبقية حياتي، ولن أعود الإنسانة نفسها مرة أخرى التى كانت قبل الحرب..وليت الأمر اقتصر على أننا لم نتلق إنذارا فى الوقت المناسب، بل إننا كنا نحارب على جبهتين فى وقت واحد، ونقاتل أعداء كانوا يعدون أنفسهم للهجوم علينا من سنين».
صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية اعترفت بعظمة جيشنا قائلة: «إن الدفاع الجوى المصرى المضاد للطائرات يتمتع بقوة لم يسبق لها مثيل فى تاريخ الحروب، وتفوق تلك التى واجهها الأمريكيون فى فيتنام، مشيرة إلى أنه قد حدثت إساءة تقدير كبيرة من جانب الإسرائيليين بالنسبة لفعالية الدفاعات المصرية وقدرة المصريين على عبور القناة».
أهم دروس التاريخ أن للشعب المصرى إرادة لا تمـــوت بل إنه يسترد شـــبابه وحيويته، فيحطم قيود الانكسار ويعود مجددا ليقف صامدًا فى شموخ تحت راية الوطن محققًا النصر والعزة فى أحلك الظروف..ولا نبالغ إذا قلنا إنه لا جديد فى هذا فالمصريون يصنعون التاريخ دائمًا.
إرادة المصريين وتماسكهم كانت مقدمة ضرورية ولازمة لإحراز أعظم نصر عسكرى فى العصر الحديث وهو نصر أكتوبر العظيم الذى تحقق بفضل معجزة فنية وعسكرية سطرها المقاتل المصرى ليعبر قناة السويس ويحطم خط بارليف الذى صورته إسرائيل ووسائل الإعلام الدولية بأنه حصن منيع يستحيل تجاوزه.
لم يكن هذا النصر مجرد استعادة للأرض بل كان إعادة صياغة للشخصية المصرية واستعادة الكرامة الوطنية الجريحة.
لقد جاء الأداء البطولى لقواتنا المسلحة ليؤكد للعالم أجمع أن الجندى المصرى خير أجناد الأرض، وما كان النصر ليتحقق لولا التخطيط العلمى الدقيق للقيادة الرائعة صاحبة قرار الحرب والسلام وهو الرئيس الراحل محمد أنور السادات.. وقد نجحت قواتنا المسلحة فى الأيام الأولى للمعركة أن تحقق هدفا استراتيجيا لا يختلف عليه أحد وهو «كسر النظرية الأمنية الإسرائيلية» وكسر الغطرسة الإسرائيلية وأسطورة الجيش الذى لا يقهر ليتأكد لنا صدق العبقرية المصرية التى جسدها المفكر الرائع جمال حمدان صاحب موسوعة «شخصية مصر» بقوله الخالد: «والذى نراه هو أننا إزاء حالة نادرة من الأقاليم والبلاد، من حيث السمات والقسمات التى تجتمع فيها، فكثير من هذه السمات تشترك فيها مصر مع هذه البلاد أو تلك، ولكن مجموعة الملامح ككل تجعل منها مخلوقا فريدا فذا، فهى بطريقة ما تكاد تنتمى إلى كل مكان دون أن تكون هناك تماما، وبهذا فإنها تكاد تأخذ من كل طرف تقريبا بطرف، أى تأخذ بالحد الأدنى -على الأقل كميا- من الحد الأقصى من الحالات والسمات، بصورة تؤكد فيها ملكة الحد الأوسط وتجعلها سيدة الحلول الوسطي، تجعلها أمة وسطا بكل معنى الكلمة، بكل معنى الوسط الذهبي، ولعل فى هذه الموهبة الطبيعية سر بقائها وحيويتها على مر العصور «.
حرب أكتوبر أن الحق لا يضيع بالتقادم، وأن عزيمة المصريين لا يفت فى عضدها الشدائد متى آمنوا بحقهم وتهيأت لهم الظروف لاسترداده.. فلا تنقصهم القوة ولا القدرة على مسايرة مستجدات العصر، فهم يملكون المقدرة على تطوير قدراتهم بسرعة مذهلة فى أحلك ساعات الشدة وأكثرها إظلاماً متى توفرت لهم الظروف المناسبة.
من دروس أكتوبر نسجل هنا أن صحافتنا وإعلامنا كان لهما دور فعّال ومشرف فى صناعة النصر العظيم، فهما لم يكتفيا برصد وتسجيل مشاهد الحرب وتفاصيل المعارك وبطولات جيشنا العظيم بل لعبا دوراً مؤثراً فى التمويه والخداع الاستراتيجى الذى انتهجته القيادة السياسية وقتها لتضليل العدو وأعوانه عبر خطاب مزدوج نجح باقتدار فى مخاطبة الخارج بلغة مطمئنة لا تشى بأن ثمة حرباً سيشعلها المصريون ويجنون حصادها نصراً مؤزراً.. وهو ما انطلى على أعتى أجهزة المخابرات العالمية وأوحى وقتها لإسرائيل بأن مصر مستكينة ليس بوسعها تغيير المعادلة القائمة بأى صورة..وبالتوازى نجح الإعلام فى مخاطبة الداخل بلغة مغايرة تماماً، تبث الأمل فى الغد وهو ما خلق وعياً حقيقياً فى جبهتنا الداخلية التى اكتملت لها مقومات العبور العظيم الذى كان إعلامنا رأس الحربة فى معاركه..فقد مهد الأرض أمام جنودنا عبر صناعة رأى عام ناضج مساند داعم لجيشه وقيادته.. إعلامنا ارتقى وقتها أعلى درجات المهنية والكفاءة والاستنارة والوطنية، فنال احترام الناس، وحفر مصداقيته فى الذاكرة القومية بأحرف من نور.

زر الذهاب إلى الأعلى