نسائم أكتوبر ..وبشائر الأمل !!
الكاتب أ / فهمي عنبة
فى كتابه « البحث عن الـــذات » وصـف الرئيس الراحل أنور السادات الفترة بعد 1976 وحتى وفاة الرئيس جمال عبدالناصر بأنها فترة الكفاح من أجل بقاء الشعب واسترداد كرامته وكيانه .. مشيراً إلى أنها بـدأت بعد أيـام قليلة من 5 يونيو فى معركة رأس العش فى الأول من يوليو 67 وبعدها إغراق المدمرة إيلات فى 21 أكتوبر من نفس العام .. مما أعاد الثقة فى المقاتل المصرى وفى قواتنا المسلحة حيث بدأ بناء الجيش على أسس علمية استعداداً لحرب تحرير
الأرض المحتلة .
بعد مـرور نصف قـرن على نصر أكتوبر .. لا يمكن للأجيال الجديدة أن تتخيل مدى المعاناة التى عاشها أبناء الوطن من مدنيين وعسكريين خلال السنوات الست التى أعقبت أحداث 67 وحتى يوم السادس من أكتوبر .. فقد توقف كل شيء فى الدولة ولم يعد هناك من صوت يعلو على صوت المعركة المنتظرة.. فما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.. تحمل الشعب تأجيل خطط التنمية وتعطل بناء المـدارس والمستشفيات .. وأعطيت الأولوية لشراء الأسلحة والطائرات وبناء حائط الصواريخ .. أما أبناء القوات المسلحة فلم يعرفوا النوم ولا الـراحـة وكـانـوا يتدربون بالليل والنهار والتحق الجنود المؤهلات بالتجنيد.. والتحم القادة والضباط معهم يعيشون فى الخنادق على ضفاف القناة .. يقومون بعمليات استنزاف للعدو .. ويطورون الأسلحة الدفاعية العتيقة التى يحصلون عليها من الاتحاد السوفيتى ويجعلونها قادرة على التفوق على مثيلاتها الأمريكية والغربية المتطورة .
كان أبناء الشعب والجيش لا هم لهم سوى الاستعداد للمعركة .. ولا يستسلمون لليأس والإحباط بسبب الهزيمة .. ولا يقلل من عزيمتهم ما كان يبثه العدو من شائعات ومن تهويل لقدراته وأنه « جيش لا يقهر » ويمتلك الذراع الطويلة التى تصل لكل مكان.. والويل لمن يقترب من «بارليف» أقـوى خط دفاعى عرفته العسكرية وتحصيناته لا يمكن تحطيمها !! .
6 سنوات و4 شهور كاملة قضاها المصريون فى صبر وعمل .. لم يفقدوا يوماً إيمانهم بالله ولا بقدرة جنودهم على استعادة الأرض والكرامة .. كان الجميع يتعجلون الهجوم على الأعـــداء .. الشباب بحماسهم يقومون بمظاهرات فى الجامعات تستعجل القيادة السياسية بالحرب .. والجنود على الجبهة لا يطيقون رؤيـة الأعــداء يعبثون بأرضنا .. ربما لأول مرة فى العالم .. يتفق أبناء الشعب والجيش على حتمية خوض الحرب ويطالبون بالإسراع بها .. ولكن الرئيس السادات وقيادات القوات المسلحة كانوا يخططون فى صمت يتابعون التدريب ويجهزون مسرح العمليات ويـخـدعـون الـعـدو ويــوفــرون احـتـيـاجـات الجبهة الداخلية .. ومـعـدات القتال والأسلحة والطائرات والدبابات .. ويختارون التوقيت المناسب لضمان عدم تكرار ما حدث فى يونيو 67 ولتحقيق النصر المبين بإذن الله .
جاء اليوم الموعود .. وحانت الساعة .. لم يتخيل العدو ولا أى أحد فى العالم أن جيشنا سيعود ويهاجم فى « عز الظهر » ويحطم ما قيل إنه أقوى وأحصن خط دفاعى فى العالم بعد عبور مانع بحرى بطول 170 كم وبعده الساتر الترابى المرتفع 25 متراً .. إنها معجزة وملحمة لا يفعلها إلا من قال عنهم رسول الله « إنهم خير أجناد الأرض » !! .
بعد النصر بعام وفى أكتوبر 1974 نظمت القوات المسلحة ندوة عالمية عن الحرب والـدروس المستفادة منها وكانت الجلسات تعقد بجامعة القاهرة وتمت دعـــوة الـعـديـد مــن الــقــادة الـعـسـكـريـين وخـبـراء استراتيجيين من دول العالم .. وتمت الاستعانة ببعض الطلاب خاصة أعضاء فريق جوالة الجامعة لتوزيع الـدعـوات وتنظيم الدخول وجلوس المشاركين فى أماكنهم .. وكنت من هؤلاء الطلاب مما أتاح لى شرف حضور عدة جلسات والحصول على أبحاث وتقارير ومقابلة الخبراء والاستماع منهم بأن ما حدث من الجيش المصرى إعجاز بكل المقاييس وأنه غَّير الكثير من المفاهيم والثوابت فى العلوم العسكرية وأنه بعد مرور عام واحد يتم تدريسه فى كل الكليات والمعاهد العسكرية الدولية .
شهد العالم كله بـأن المصريين انتصروا فى حرب أكتوبر 73 وكان الأعداء أول من اعترفوا بذلك ومن يرد التأكد فليعد إلى مذكرات قادتهم فى الحرب ابتداء من جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل وقتها وموشى ديــان وزيــر الـدفـاع وأهـــارون باريف مدير المخابرات .. وإلى ما تسرب من تقرير لجنة « أجرانات » الذى لم يجرؤ على نشره إلى اليوم رغم مرور 50 عاماً على هزيمتهم باعترافهم .. فماذا يريد المشككون بعد أن شهد أكثر من شاهد من أهلها ؟! .
تعلم الـدول العظمى حقيقة المعجزة التى تحققت بأيدى جنود الجيش المصرى حيث قامت بتصوير العبور لحظة بلحظة وكافة العمليات العسكرية من اقتحام خط بارليف الذى اتضح أنه « هش مثل البسكويت » وتهاوت نقاطه الحصينة الـواحـدة تلو الأخـرى مثل قطع « الدومينو » .. فقد قامت الأقمار الصناعية التى تمتلكها فـى ذلــك الـوقـت أمريكا والاتحاد السوفيتى بالتصوير .. وكان الرئيس السادات قد ذكر مرة انه طلبمن الاتحاد السوفييتى ان يمده بما قامت الأقمار بتصويرة لتكون وثيقة للأجيال وللأسف لم يتم الاستجابة لطلبه .. ولكن الآن بعد مرور 50 عاماً وهى مدة كافية للافراج عن الوثائق المهمة فى معظم البلدان فيمكن تجديد الطلب من روسيا ” وريثة السوفييت ” ولن يتأخر الرئيس بوتين نظرا للعلاقات الطيبة بين البلدين .. أو مخاطبة الرئيس الأمريكي جو بايدن لإرسال ما تم تصويره .. وكذلك الإفراج عن العديد من الوثائق الخاصة باتصالات كيسنجر مع قادة إسرائيل وما تم إرساله من أسلحة وطائرات ومعدات لإنقاذ إسرائيل من هزيمة ساحقة .. أم أن كل ما يخص إسرائيل يجب أن يبقى سرياً ومحمياً من الولايات المتحدة رغم مرور نصف قرن وهو ما يتيح السماح بالاطلاع على الوثائق وفقا للقانون الأمريكي .
تجلت خــلال حــرب أكتوبر قـــدرة المصريين على تحقيق المعجزات وقهر المستحيل .. مما خلق « روح أكتوبر» التى نحن فى أحوج الحاجة إليها لنخرج من عنق الزجاجة وبناء الوطن الذى نحلم به وإنعاش الاقتصاد .. وإعطاء الأمل للأجيال القادمة .. ولن يكون ذلك إلا كما فعلنا من 50 عاماً بالإيمان والعمل والعلم والصبر والتضحية والتكاتف وتلاحم الشعب والقيادة والجيش فهذا هو مفتاح النصر .
نصر أكتوبر الحقيقى ببطولاته وقـادتـه وأسماء الشهداء والأبطال من ضباط وجنود القوات المسلحة .. والمعجزات التى حققوها ابتداء من إعادة بناء الجيش وابتكار خراطيم المياه التى دمـرت الساتر الترابى وتطوير الأسلحة بعقول وسواعد مصرية واختيار شفرة من النوبة حَّيرت العدو .. وعبقرية الخداع الاستراتيجى وتحديد موعد الهجوم وجسارة الجنود الـذين لم يهابوا من فتحات النابالم التى قالوا إنها ستحيل القناة إلـى جهنم يحرق كل من تسول له نفسه العبور .. كل ذلك لا يأتى شيئاً أمام أبطال كانوا يواجهون دبابات العدو بصدورهم ويـدمـرون 500 دبابة فى يومين ويأسرون « عساف ياجوري » وجنوده ويفضحون أسطورة الجيش الذى لا يقهر أمام العالم .. هذه البطولات تحتاج لمن يوثقها ويرويها.. فإذا كان اليهود فى السينما العالمية أنتجوا فيلماً « لجولدا مائير » وهى المهزومة صحيح أن فيه بعض الإنصاف والاعتراف بالهزيمة .. ولكن ليس أقـل من إنتاج عـدة أفـلام ومسلسلات وكتابة قصص وروايــات القادة والشهداء والضباط والجنود الـذيـن انتصروا فـــوراء كـل واحــد منهم ألـف قصة وحدوتة ولنبدأ بمن حصلوا على نجمة سيناء ونجمة الشرف ليعرف الشعب من هم وما هى بطولاتهم .. وعلينا أيضاً تكريمهم وإطــلاق هـذه الأسماء التى نفخر بها على شوارعنا خاصة أن هناك بعض الشوارع والحوارى يطلق عليها أسماء بلا معنى بل أحياناً تكون مخجلة لسكانها مثل بركة الفيل ودرب المهابيل وقلعة الكبش وغيرها !! .
كلما عادت نسائم أكتوبر .. هلت على المصريين بشائر الأمل التى تبعث فى النفوس الثقة فى قدرة الشعب على تحدى الصعاب وعبور الأزمـــات وتحويل كل هزيمة إلى انتصار بالعمل والصبر ودعاء الله أكبر .