مقالات

الذكاء الاصطناعي والعولمة

الكاتب أ / رانيا عبد العزيز

حقق برنامج “ChatGPT” اختراقًا كبيرًا في قدرته على الإجابة عن أي سؤال علمي أو تاريخي، بالإضافة إلى قدرته على الرسم وكتابة التقارير والنصوص العلمية والأدبية، وكذلك قدرته على تطوير نفسه بشكل دائم، إلى درجة أنه يتقدم كل أسبوع ويختلف عما كان عليه من قبل، كما صرح أحد الخبراء في هذا المجال.

خلال عدة أشهر، جمع البرنامج 100 مليون متابع وبسرعة مذهلة تفوق سرعة تطبيق “إنستجرام” على جمع المتابعين خلال عشر سنوات، فبعد كارثة فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19) صار موضوع الذكاء الصناعي أحد محاور النقاشات على المستوى التكنولوجي والقانوني وعلى مستوى المصير البشري، إذ يتخوف الخبراء من قدرة هذا الذكاء على هزيمة البشر وتغيير الحضارة البشرية عبر الهيمنة عليها، وإنتاج قيم جديدة تنحّي الإنسان من واجهتها الحضارية.

استثمرت شركة “مايكروسوفت” مليارات الدولارات في تطوير برامج “ChatGPT”، بالإضافة إلى الملياردير إيلون ماسك صاحب شركة “تسلا” وشركة الصواريخ الفضائية ومالك “تويتر”، وطبقت شركة “جوجل” برنامج “Bard” لتغيير طرق البحث، وغيرها من الشركات التي صارت تفاخر بتطوير الذكاء الصناعي وبرامجه التي تذهل البشر من حيث قدراتها على التطور.

ميزة الذكاء الصناعي أن التجربة التي يكتسبها يعالجها “الروبوت” ويتشارك نتيجتها مع آلاف “الروبوتات”، ما يجعل الإنسان يقف أمام آلاف الآلات الذكية التي تمتص المعرفة من مليارات الصفحات التي راكمها البشر في الموسوعات العلمية والأدبية في مستودعات محركات البحث، بالإضافة إلى ملايين الحوارات التي تجريها “الروبوتات” مع البشر وتصحح نفسها، ويحصل كل “روبوت” على النتيجة التي أنجزتها آلاف “الروبوتات”، ما يضعنا كبشر أمام تحديات كبيرة.

الطائرات المسيّرة، والصواريخ النووية، والأقمار الصناعية، والبنادق الآلية، ووظائف الطلاب في المدرسة، صارت تعتمد بشكل متزايد على الذكاء الصناعي، ما يجعل الذكاء البشري أمام تغيرات لا بد أن ينجزها في الجانب التعليمي والأخلاقي والقانوني، فكما كانت الصواريخ النووية مشكلة على الحضارة البشرية، صار الذكاء الصناعي مشكلة إضافية لا بد من إعادة وضع قوانين لها.

وقّع أكثر من 13500 خبير وشخصية عالمية على مذكرة تطالب بقوننة الذكاء الصناعي، وكبح جماحه، تحت طائلة أن نكون تابعين له بدلًا من أن يكون تابعًا لنا، ومن بين الأسماء الموقعة على المذكرة ثلاثة من رواد الذكاء الصناعي الكبار، وهنري كيسنجر، وعدد كبير من أهم الشخصيات اللامعة.

ونبه العلماء إلى خطورة الذكاء الصناعي، ومن أبرزهم ستيفن هوكنغ، الذي حذّر في 2004 من تكوين إرادة ذاتية للآلات الذكية تتنافس مع الإرادة البشرية، وقد تؤدي إلى إنهاء الجنس البشري.

وفي الخيال العلمي، تجد كثيرًا من الأفلام التي تدرس تفوّق الذكاء الصناعي وابتكاره برامج لإضعاف البشر وجعلهم أقلية، ولاحقًا الحلول مكانهم في إدارة الحياة، وفي فيلم “تقرير الأقلية” نجد أن “الروبوتات” تحكم على بطل الفيلم توم كروز بالموت، لأن نظم التحليل والتوقعات تعتقد أنه سيقوم مستقبلًا بجريمة ما. وفي فيلم “ذا ترميناتور” نجد أن برنامج “سكاينت” الذي يدير المركبة الفضائية والمصمم لحماية البشر، يقتل البشر الذين على متنها لأنه يعتبرهم أكبر خطر موجود.

ولكننا اليوم إن أمعنّا النظر في حياتنا فإن البرامج الذكية تدرس رغباتنا وتوجهاتنا فتطلق علينا وابل الإعلانات، بالإضافة إلى المعلومات المزيفة وغير المزيفة، أو وابل الفيديوهات التي تتناسب مع اهتماماتنا أو تعيد توجيه رغباتنا، ولعل “تيك توك” من أخطر البرامج علينا، وعلى أطفالنا، إذ يمتلك برمجيات تستكشف الرغبات، والتوجهات، إلى درجة السيطرة المتزايدة على المراهقين، وحتى على الكبار من الناس بشكل لا مهرب منه.

في المقابل، لا نستطيع أن نستقيل من استعمال الحواسيب والهواتف الذكية، ولا الآلات الذكية التي احتلت حياتنا، وحلّت محل الورق للكتابة، ومحل الموسوعات للبحث والتفكير، واستوديوهات التصوير والابتكار الفني، فتنظيم مجال الذكاء الصناعي هو الحل الأمثل بدلًا من أن ينادي بعض المتطرفين بإلغاء الآلات الذكية من حياتنا بحجة قدرتها على السيطرة علينا مستقبلًا.

تاريخيًا كان الذكاء البشري أيضًا سلاحًا ضد البشر في كثير من جوانبه، فالدول الاستعمارية مثلًا، استخدمت ذكاء علمائها، ومعارفها، وآلاتها، لقتل الناس في إفريقيا وفي العالم الثالث بالملايين، ونهبت المليارات من ثروات الدول التي احتلتها منذ الاحتلال البرتغالي والهولندي والبريطاني للهند في القرن الـ16 حتى منتصف القرن الـ20، عندما بدأت الدول المستعمَرة بطرد المستعمرين منها.

وقبلها أبيدت حضارات الهنود الحمر في أمريكا، وبعدها رُحلت شعوب بكاملها أيام ستالين في الاتحاد السوفييتي، وجرائم الحرب العالمية الثانية التي بلغ عدد ضحاياها 60 مليونًا من البشر، بالإضافة إلى تاريخ الحروب الدينية وغير الدينية التي لا تُعد ضحاياها في تاريخنا البشري.

وعودة إلى الطائرة المبرمجة التي أدارت صواريخها وقصفت قاعدتها نتيجة خلل في برامجها، ألم يفعل قادة أجهزة الجيش السوري نفس فعل تلك الطائرة عندما أداروا فوهات أسلحتهم باتجاه الشعب السوري الذي علّمهم وموّلهم، ودمروا معظم المدن والبلدات السورية وهجّروا أهلها؟

حدث ذلك حتمًا نتيجة خلل في البرمجة وغسل العقول، فأجهزة المخابرات غيّرت أولويات وبرامج الجيش السوري، في الحفاظ على المواطن، واحترامه وصون استقلال البلاد وحمايتها، نحو حماية الحاكم وأسرته وتحويل عائلة الأسد إلى بديل عن الوطن، وذلك عبر البرمجة اللاأخلاقية التي زرعتها أجهزة المخابرات الأسدية في عقول وضمائر قادة الجيش.

وهذا يشير إلى أن الذكاء الصناعي ليس وحده هو الخطر على الوجود البشري، بل إن الذكاء البشري المنفلت من الأخلاق ومن القيم لا يقل خطرًا علينا من الذكاء الصناعي، الذي لا يزال يفتقد إلى التنظيم والضبط القانوني والأخلاقي.

زر الذهاب إلى الأعلى