عندما انتظر العالم طائرة السادات في مطار بن جوريون..!

الكاتب أ / السيد البابلي
وعندما نتحدث بعد خمسين عامًا من ذكري الحرب الخالدة التي انتصر فيها الجيش المصري ورجالاته البواسل في معركة استعادة الأرض والكبرياء والكرامة فإننا نستعيد ذاكرة هذه الأيام التاريخية التي كانت بداية لتغيير شكل وخارطة المنطقة.
فالعبور المصري الكبير في هذه الحرب أنهي حالة اللا حرب واللا سلم التي كانت سائدة وأكد أن العرب لديهم القدرة والمقدرة علي أن يخوضوا الحرب وأن يحققوا الانتصار.. وهذا الانتصار دفع إسرائيل لإعادة التفكير في الاستجابة لمبادرات التسوية والسلام التي تقوم علي أساس مقايضة الأرض بالسلام.
وبقدر ما فاجأ ابن مصر محمد أنور السادات العالم بقرار الحرب فإن المفاجأة الأكبر كانت بقرار السلام وإعلانه الاستعداد للذهاب إلي مقر دار العدو في إسرائيل لكي يتحدث أمام الكنيست الإسرائيلي عن آفاق السلام.
والعالم الذي وقف مذهولا أمام إعلان السادات ظل حابسا لأنفاسه في لحظات لا تنسي عندما كانت طائرة الرئيس محمد أنور السادات تهبط في مطار بن جوريون في تل أبيب في التاسع عشر من نوفمبر من عام ..1977 فلم يكن هناك من يتخيل أو يعتقد أنه من الممكن أن تكتب له الحياة ليعيش ويري هذه اللحظة.
* * *
وظهر الأسد المصري الجسور محمد أنور السادات في مطار بن جوريون الإسرائيلي. هبط من الطائرة مرفوع الهامة. ممشوق القوام يسير بخطوات واثقة ووجه يحمل كل ملامح الشموخ والثقة ويصافح مستقبليه من قادة إسرائيل ويداعبهم بالتعليقات الساخرة ومجسدًا لهم وأمامهم صورة المقاتل المصري الذي أذاقهم الرعب في حرب أكتوبر للعبور العظيم.
ويخطئ من يعتقد ظلمًا ووهمًا وبطلانًا أن سادات مصر ذهب يبحث عن السلام المنفرد لمصر أو أنه ذهب يعلن انتهاء حالة الحرب.. فالسادات وفي خطابه التاريخي أمام الكنيست كان واضحًا عندما قال إنه لم يأت ليعقد اتفاقا منفردًا بين مصر وإسرائيل. فهذا ليس واردًا فأي سلام منفرد لن يقيم السلام الدائم والعادل في المنطقة. والسادات أوضح إصرار مصر علي تحقيق الانسحاب الكامل من الأراضي التي احتلتها إسرائيل بالقوة بما فيها القدس العربية.
وعاد السادات إلي مصر بعد أن قلب موازين العالم وبعد أن تحول إلي بطل للحرب والسلام وبعد أن جذب كل الأنظار إلي مصر وبعد أن نجح في أن يرغم الولايات المتحدة الأمريكية لأداء دورها في أن تكون راعيًا للسلام في المنطقة. ولم يتردد السادات طويلاً في توجيه الدعوة إلي مؤتمر في فندق ميناهاوس بالجيزة لبدء حوار حول الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية ودعا إلي حضوره في ديسمبر 1977 الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي والأردن وسوريا ولبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية ومصر الدولة المضيفة.. ورفعت أعلام الجميع فوق مائدة المفاوضات في ميناهاوس ولم يحضر إلا الأمم المتحدة وأمريكا ومصر وإسرائيل.. وظلت بقية المقاعد شاغرة وضاعت بذلك فرصة ذهبية لن تتكرر أبدًا.
* * *
ولم يكن قرار السادات بالسلام منفردا كما يحلو للبعض اتهامه بذلك. فالسادات الذي احترم الشركاء العرب في معركة الانتصار أراد أن يتحمل وحده مسئولية فشل هجوم السلام.. وعندما تيقن من أن العالم قد استوعب مبادرته وأن هناك قوة هائلة للدفع في اتجاه استعادة سيناء والجولان والضفة الغربية والقدس فإنه سارع إلي دعوة كل أطراف النزاع لحضور أول مؤتمر في هذا الصدد في ميناهاوس.
ولكن محاولة السادات في جذب باقي الأطراف لمائدة المفاوضات لم يكتب لها النجاح رغم أن دولا عربية كثيرة من التي عارضت مبادرة السادات كانت قد عبرت له عن تأييدها سرا وتراجعت عن هذا التأييد أمام ظهور أطراف وقوي عربية متشددة وجهت تهديداتها علنًا لكل من يجرؤ علي إعلان التأييد للسادات واعتقدت وهمًا أن الفرصة قد أصبحت مواتية أمامها لسحب البساط من القاهرة ونقل مركز التأثير والقيادة إلي عواصم عربية أخري وبدأت في إلقاء الاتهامات للسادات لتغطية أهدافها الحقيقية وللإيحاء بأنه السبب في حالة الانقسام العربية.
وأيًا كانت دفوعات ومجادلات هذه المرحلة. فالتاريخ أثبت أن السادات كان صاحب الرؤية. فالرجل الذي ظلت بلاده تعاني وتعاني من ويلات الحروب وحيث لم يكن هناك صوت يعلو فوق صوت المعركة كان يبحث عن مصلحة مصر التي عانت من تدهور هائل في الخدمات والبنية التحتية وتأجيل متواصل لمشروعات التنمية في الوقت الذي كان فيه من يدعمون خيار حالة الحرب التي لا تنتهي هم من يجنون ويحصلون علي الأرباح الهائلة من توابع الحرب والاقتصادات الجديدة.. وأيًا كانت هذه المجادلات أيضا فإن التاريخ أنصف أنور السادات الذي نجح في استعادة سيناء كاملة وأعاد رفع العلم المصري فوقها ليثبت أن دعابته التي أطلقها في لقاء له مع مناحم بيجين رئيس وزراء إسرائيل لم تكن دعابة بل كانت حقيقة. فقد طلب بيجين من السادات أن يوجه له الدعوة لزيارة القاهرة. فرد السادات قائلا “سأوجه لك الدعوة لزيارة سيناء”. واستدرك بيجين متسائلا في استنكار واضح قائلاً سيناء.. إذا كان هذا اللقاء سيتم في سيناء فسأوجه أنا الدعوة علي اعتبار أن سيناء كانت لا تزال تحت سيطرة إسرائيل..!! ولم يكن بيجين يدرك أنه يتعامل مع السادات.. المعجزة المصرية التي احتار العالم في تفسيرها إلي اليوم.. والرئيس الذي سبق عصره والذي نحتفل به اليوم مع كل أبطال أكتوبر الذين ردوا إليها الاعتبار.
* * *
وأخيرًا:
هذا هو واقعنا الحقيقي. فالمال أسكت
الكثيرين عن قول الحق.
* * *
وتتمثل السعادة في صحة جيدة
وذاكرة سيئة.
* * *
وهذا المجتمع قاتل للعفوية
والتلقائية والسلاسة والبساطة
وعاشق للحقد والتصنع بامتياز.
* * *
وأرجو من الأيام ألا تريني فيك
يأسا أبدا. ولا أري في وجهك شحوبا. أتمني أن
أراك مشرقا دائما كما أراك بداخلي.