التوقعات «غير المرئية»
الكاتب أ / نشأت الديهي
كان المعلم الخبير هو الذى يتوقع الامتحانات وكنا ننبهر بهذا المعلم حينما ندخل الامتحان ونجد توقعاته أمامنا وكأنه هو من وضع الامتحان ، كان البعض منا يرى أنه «عبقري» ويرى البعض الآخر أنه «مخاوي» ويرى البعض الثالث أنه على صلة ما بواضعى الامتحانات، ويرى البعض الرابع أنه مقامر محظوظ ، لكن أحدًا من هؤلاء لم يقيم الأمر على حقيقته ، فالمعلم بخبرته الطويلة وتخصصه الدقيق ومتابعته لسير وضع الامتحانات على مدار عشرات السنين ومعرفته بالظروف والمستجدات وطبيعة السنة الدراسية والاحداث المصاحبة لها يستطيع بسهولة توقع الاسئلة بشكل شبه دقيق ، الموضوع سهل جدا لمن يفكر وينظر للسنوات السابقة ومدى التكرار واهمية التجديد ومواطن التمييز والاسئلة المبتكرة الى آخر هذه الدراسات البسيطة ، كنت وانا تلميذ وطالب ودارس وباحث أهتم بالماضى والتاريخ وخبرات الآخرين حتى أستطيع ادارة الحاضر وفهم اللحظة الراهنة وكنت أنظر الى المستقبل انطلاقا من العلاقة بين الماضى والحاضر ومدى التغيرات الحاصلة أمام عينى حتى أتنبأ وأتوقع المستقبل بشكل شبه دقيق ، كنت أسأل المعلمين والمدرسين النابهين كيف تتوقعون؟ لم يكن يجيبنى احدهم عن سؤالى «كيف تتوقعون» بل كانوا يجيبون عن سؤال لم أسأله «ماذا تتوقعون» اما أنا فلم أهتم بتوقعاتهم بل كنت أبحث عن آلية التوقع وكيفيته وادواته ، للاسف كان معظمهم يرتدى أمامى وأمام التلاميذ أردية الحكمة والعبقرية ووصولا الى القداسة والبركة والاتصال بالسماء ، لم يشرح لنا احدهم أن الموضوع عبارة عن علم وخبرة ولا علاقة له بالفهلوة او القداسة او العبقرية ، وبعد مرور عقود وعقود أجدنى أقف نفس الموقف ولكن فى مشهد مغاير تماما ، فبحكم عملى الصحفى والاعلامى ألجأ الى الخبراء فى كل المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية والامنية باحثا عن اجابات لأسئلة وتساؤلات عن أمور ترتبط بالغد والمستقبل حيث اسئلة التوقعات والتنبؤات واستشراف المستقبل ، الحقيقة المجردة أننى وفى معظم الملفات لم أجد من يملك ناصية «التوقعات المرئية» التى كان معلمونا يوزعونها علينا بجنيهات معدودة ، فخبراء الاقتصاد فشلوا فى التنبؤ بخط سير الأزمات الاقتصادية وأخفقوا فى تتبع بالونات التضخم ، وكذلك لم نجد من يتنبأ بمسار ونتائج الحرب الروسية الاوكرانية ولم نجد من يشرح لنا اليوم التالى لما يجرى فى السودان أو اليمن او ليبيا أو بوركينا فاسو أو مالى ، لم نجد من يستشرف المستقبل بالنسبة لحركات الاسلام السياسى وداعش والاخوان ، لم نجد من يتنبأ بشكل علمى ومقنع بما يجرى فى بحر الصين الجنوبى ، وكانت قمة الفشل فى التنبؤات بحرب غزة ، كان الخبراء يخرجون فرادى وجماعات يؤكدون أن الحرب خاطفة ولن تستغرق أكثر من أيام! وبعدها بأيام قالوا إنها حرب الخلاص من حماس وستتحول غزة الى أثر بعد عين! وقالوا إن اجتياح اسرائيل البرى لغزة سيحول القطاع الى محرقة فى ظرف ساعات ، والنتيجة امامنا ، فلا الحرب خاطفة ولا غزة انتهت ولا حماس هزمت ولا إسرائيل انتصرت ولا شيء من هذه التنبؤات والتوقعات قد تحقق ، واعود بالذاكرة الى احتلال العراق وسقوط بغداد وتحليلات الخبراء حينها والى احتلال امريكا لافغانستان وتخيلات الخبراء ازاءها ومرورا بحروب واحداث عديدة لم يكن للخبراء فيها توقعات جديرة بالاهتمام، هذه الخلاصة تنسحب على معظم الخبراء فى كل مكان فى العالم ، والمشكلة اننا لا ننتبه ونتعلم ونصحح ، فالتحليل السياسى او العسكرى او الاقتصادى له اصول علمية وكذلك التنبؤ. والتوقع واستشراف المستقبل علوم لها قواعد وادوات واصول وليست فهلوة وكلام مرتب دون مضامين معلوماتية وفكرية محترمة ، بيد أننا فى حاجة ماسة لاعادة النظر فيمن يتوقعون، فتوقعاتهم «غير مرئية».