مقالات

«الجمهورية»..أسرار وأمجاد وتحديات .. !!


الكاتب أ / علي هاشم

فى مسيرة نجاح جريدة الجمهورية التى نحتفل هذه الأيام بعيد صدورها السبعين (انطلقت صباح الاثنين 7 ديسمبر 1953 وهو ما يسبق يوم مولدى بأربعة أيام فقط ) ما يستحق أن يروى وما يستحق التأمل والدرس ليكون دافعاً للإصرار على استمرارها على درب النجاح والتميز، معبرة عن أحلام القراء وآمالهم ومتاعبهم..كما كانت منذ انطلاقها فى كنف ثورة يوليو التى أرادتها ناطقا باسمها، معبرا عن أفكارها وطموحاتها وتوجهاتها، وقد كانت كذلك بالفعل؛ لكنها اختطت لنفسها مسارًا شعبويًا جعلها لسان حال الناس المقربة إلى نفوسهم.
تاريخيًا صدرت الجمهورية برعاية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذى وقّع بيده طلب إنشائها ثم خطّ بقلمه افتتاحيتها الأولى بحسبانها ابنة تلك الثورة وإحدى ثمراتها ..كما قدم السادات 300 جنيه وقتها  كضمانة شخصية حتى توافق إدارة المطبوعات على إصدارها ثم عمل مديراً عاماً لها ؛ فرئيساً لمجلس إدارتها..ومن المفارقات أننى حين توليت المنصب ذاته وجدت المكتب الذى كان السادات يجلس عليه لكنه – أى المكتب- كان مفككا لا يصلح للاستخدام، فعمدت إلى ترميمه و إصلاحه وحرصت على الجلوس مدة بقائى فى منصبى عامين اثنين حققت خلالهما مع فريق الإدارة والعاملين بالمؤسسة أرباحا فى النشاط الجارى ولأول مرة، قبل أن أتقدم باستقالتى طوعا بعد أحداث يناير ٢٠١١ لأترك الفرصة لدماء جديدة أكثر قدرة منى على التعبير عن روح تلك المرحلة بعد أن بذلت أقصى ما أستطيع طوال مشوار عملى بالمؤسسة لزيادة مواردها ..ومن بواعث فخرى أننى عملت فى الجمهورية مع أساتذة وقامات صحفية مشهود لها بالكفاءة والتميز تعلمت منهم الكثير ..كما كنت عضوا منتخبا بمجلس إدارتها أكثر من ١٧ عاما ..ولا ننسى للرئيس الراحل حسنى مبارك أنه افتتح المطبعة العملاقة للجمهورية ثم مبناها العريق الجديد ليضعها فى مصاف كبريات المؤسسات القومية.
ومنْ يتأمل مسيرة الجمهورية وتاريخها يجدها صوتاً للشعب ومدافعاً عن قضاياه، اهتمت بشواغل الوطن وهموم المواطن وأحلامه وطموحاته.. تتحسس نبضه، وتستشرف طموحاته وتلبى احتياجاته وتتبنى مطالبه ومظالمه لتضعها بين أيدى المسئولين حتى ارتقت يوماً أعلى درجات المجد بتوزيع قارب المليون نسخة.
ثورة يوليو أرادت بإصدارها صحيفة الجمهورية أن تكون الأخيرة لسان حالها والناطق الرسمى باسمها، المتبنى لقراراتها، الداعم لتوجهاتها فى الداخل والخارج ..لكن «الجمهورية» يممّت وجهها شطر قرائها ورسالتها وسايرت الأحداث الكبرى التى مرت بها البلاد وناصرت قضاياها المصيرية؛ فناضلت ضد الاستعمار ومدت يد العون لحركات التحرر الوطنى فى سائر قارات الدنيا، وقاومت القوى الإمبريالية وتكتلاتها وانحيازاتها الظالمة ضد الشعوب المستضعفة، ودعت إلى سياسة عدم الانحياز، وروجت للمباديء الاشتراكية التى لجأت إليها  مصر منذ عام 1960، كما دافعت باستماتة عن حق شعب فلسطين وقضيته التى هى قضية العرب المركزية منذ نشأة هذا الكيان المحتل على أراضيهم وهى القضية التى لا عادت للأضواء مجددًا فى زخم دولى بعث القضية من مرقدها فى ظل ما تمارسه قوات الاحتلال من جرئم إبادة جماعية فى غزة تحت بصر وسمع العالم فى ظل ميزان قوى غير متكافيء بين شعب أعزل ومقاومة بأسلحة بسيطة فى مقابل جيش احتلال يتسلح بأقوى وأحدث أسلحة العصر مدعومًا بأعتى قوة على ظهر الأرض وهى أمريكا والغرب التى فتحت لتل أبيب مخازن الأسلحة على مصاريعها وتصر على استمرار العدوان الإسرائيلى وترفض وقف إطلاق النار إلا بعد أن تحقق إسرائيل أهدافها الخبيثة..ناهيك عن عما يشهده العلم من تقلبات جيوسياسية وتحديات إقليمية ودولية عاصفة.
ومن دواعى الفخر والسرور أن الجمهورية أول جريدة يومية تصدرها ثورة يوليو ، وقد أريد لها فى البدء أن تكون صحيفة رأي؛ ولهذا فقد احتلت المقالات مساحة كبيرة على صفحاتها، وتناولت باستفاضة قضايا إنسانية كالحرية والمساواة والديمقراطية والإخاء والتسامح ومواجهة الفساد بشتى صوره.. لكنها سرعان ما تجاوبت مع سنن التطور ومستجدات العصر ومتطلباته ولم تقتصر على هذا اللون الصحفى على أهميته فتحولت كغيرها من بنات زمانها إلى صحافة الخبر الذى تربع على عرش الصحافة وقتها وانفرد بها قبل بزوغ ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وصار عماد الصحافة القومية وأساس التحقيقات فى المجلات الأسبوعية.
«الجمهورية» اهتمت بالتركيز على اهتمامات القارئ وهمومه، وصار همها أن تشبع نهمه فى معرفة ما يجرى حوله من أحداث متسارعة تتحكم فى حاضره وتصنع مستقبله، ولم تقف فى مسيرة تطورها عند حدود «الخبر» فقط بل قدمت لقارئها معلومات متنوعة ذات إيقاع سريع تفيده فى حياته اليومية وتزيد معرفته بما يجرى فى العالم من حوله..وهكذا انتقلت «الجمهورية» بقدرة مدهشة من جريدة للثورة إلى جريدة للشعب تدافع عن حقوقه وتتبنى قضاياه وتخاطب جمهوراً عريضاً فى مساحته العددية والمكانية والحضارية؛ جمهوراً متنوعاً يجد ضالته المنشودة على صفحاتها وفى أبوابها المختلفة.
« الجمهورية» اختطت منذ خروجها للنور فى كنف الثورة خطاً تحريرياً متميزاً يخاطب فئات المجتمع كافة مع انحياز واضح للبسطاء منهم، بما تقدمه صفحاتها المتنوعة وملاحقها المتخصصة؛ فثمة «دموع الندم» يلاحق الحوادث ويطارد المجرمين أينما كانوا ..وثمة «بطولات ونجوم» الذى اختص برصد الأحداث الرياضية المتجددة وهناك صفحات متخصصة فى التعليم والمرأة والمعرفة وتكنولوجيا الاتصالات وقد سبقت فى ذلك عصرها واستشرفت آفاقاً جديدة لتلك الصناعة الواعدة، وأحرزت فيها تفوقاً ملحوظاً.
الجمهورية لم تكسب شعبيتها أو شهرتها من كونها صنيعة الثورة وأحد منجزاتها فحسب بل عرفت بحسبانها صحيفة للشعب، تقدم خدمات متميزة لقرائها الذين أحسوا بفطرتهم الصافية إزاءها بأنها تجاوب صادق وصائب لكل ما يجول فى نفوسهم من آمال وآلام وطموحات وأحلام، وأنها ساعدهم الأيمن فى نيل حقوقهم ودرء الظلم عنهم عبر التواصل الجاد مع المسئولين نيابة عنهم وهو الدور الذى نهض به بامتياز خطها الساخن (139 جمهورية) الذى توليت الإشراف على تأسيسه ومباشرة مهامه واختيار فريقه منذ البداية، وهو ما انفردت به «الجمهورية» على سائر الصحف ليس فى مصر وحدها بل فى العالم العربى كله؛ فمندوبوه لم يكونوا يكلون أو يملّون فى استقبال شكاوى الجمهور واستغاثاته يطوفون بها على المصالح والأجهزة الحكومية المختلفة، ويطرقون أبواب المسئولين والوزراء بحثاً عن حق تأخر عن صاحبه، أو دفعاً لمشقة قد لا يطيقها ذوو الحاجة..وهم حين يفعلون ذلك يؤدون أول رسالة لجريدتهم التى تقدم للناس فضلاً على قرائها ما يحتاجون إليه فى أعمالهم ومعاملاتهم ورحلاتهم وأسفارهم..ولا أدرى ما مصير هذا الرقم..ولماذا اختفي؟ !
أما صفحات المحافظات بالجمهورية فهى تستشعر نبض الأقاليم ومواجع أهلها البعيدين عن اهتمامات العاصمة ومركزيتها.
«الجمهورية» رغم أنها صدرت فى أجواء صحفية شديدة التنافسية أثبتت كفاءتها، وانطلقت تؤدى رسالتها على مدى سبعين عامًا، ترصد ما يجرى حولها من أحداث على الصعيدين العربى والعالمي؛ ذلك أن الله قيض لها كوكبة من الصحفيين والكتاب العظام الذين ازدادت بهم شهرتها وذاع صيتها وعلا شأنها، وتعاقب على رئاسة مجلس إدارتها وتحريرها نخبة متميزة وشخصيات ذوو شأن من رجال الثورة والسياسة والأدب والثقافة والصحافة، نذكر منهم الرئيس الراحل أنور السادات، حسين فهمي، جلال الدين الحمامصي، أحمد قاسم جودة، كامل الشناوي، صلاح سالم، إبراهيم نوار، إسماعيل الحبروك، طه حسين، موسى صبري، ناصر النشاشيبي، كمال الدين الحناوي، حلمى سلام، مصطفى بهجت بدوي، فتحى غانم، عبد المنعم الصاوي، محسن محمد، وسمير رجب وغيرهم ممن لا يتسع المقام لذكرهم ..هؤلاء هم رجال العصر الذهبى للجمهورية الذين ارتفعوا بها، ورفعوها لمصاف كبريات الصحف فى مصر والعالم.
ولم تتوقف مسيرة «الجمهورية» عند عطاء هؤلاء الأفذاذ الذين سلفت أسماؤهم بل أثراها حشد متميز من الكتاب والمختصين عبر مشوارها الطويل وخصوصاً فى بداياتها الأولي.. ولا يتسع المقام هنا لحصرهم..ولا أبالغ إذا قلت إن «الجمهورية» حققت طفرات ملموسة قفزت بتوزيعها لأرقام غير مسبوقة عاصرتها بنفسى محرراً فى أروقتها وعبر صفحاتها فى تخصصات وقطاعات متباينة.
مهنياً فإن الجمهورية لم تخل صفحاتها من الجوانب الإنسانية ونماذج العطاء والخير والأمل وتحدى الصعاب وقهر المستحيل؛ مثلما حدث فى عام 1969 حين وجهت الطفلة نجلاء هدايت حلمى رسالة للرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون تروى فيها قصة استشهاد والدها الطيار بسبب العدوان الإسرائيلى الغاشم فى يونيو 1967 وكان أبوها هو الذى قاد طائرة نيكسون خلال زيارته لمصر قبل أن يصبح رئيساً لأمريكا.. وهى القصة التى تابعتها بشغف وكالات الأنباء والصحف العالمية، نقلاً عن «الجمهورية» التى خاضت كغيرها من الصحف غمار المنافسة الشرسة مع الصحافة الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعى.
وليس ذلك وحده على أهميته كافياً لنجاحها ما لم تكن الصحيفة جديرة بثقة القاريء وملبية لاحتياجاته والتفاعل معه.. وتلك رسالة صحافتنا كلها حتى لا تتراجع مكانتها بصفة عامة؛ فرسالة الصحافة الحقيقية هى التنوير وإيقاظ الوعى ومن ثم ينبغى عليها أن تكون متجددة وديناميكية تضيف للناس ما يغير واقعهم ويملأ فراغهم.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى