الطمى والخرافة.. وحوار لم يكتمل!!
يسري السيد
عثر على في رحابه وأعادني إلى أيام مضت برقة… فتشت في الذاكرة المثقوبة فوجدته ضمن الجالسين بلا مغادرة. أقصد في البداية الصديق والزميل شريف قنديل، الذي أدين له باستعادة أيام مضت وما زالت محفورة رغم وهن الذاكرة… جعلنى أستعيد بعضاً من أيام وساعات قضيتها مع الشاعر الكبير محمد عفيفى مطر، ليس في رحاب القاهرة التي جمعتنى به كثيرا ولا بين جدران أتيليه القاهرة، أو في المقاهي المحيطة…..
ولكن هناك في قلب الصحراء المصرية… أقصد الوادى الجديد…. بعيدا عن المنوفية التي تجعلني افخر بالانتماء اليها مع شاعرنا الكبير رغم اننى لفترة طويلة كنت اظنه من ابناء كفر الشيخ لارتباطه فى الستينيات بالحركة الادبيية هناك.
كانت ايام هذه الرحلة فى الوادى الجديد والتجول معه بين واحتى الداخلة والخارجة… فرصة ذهبية للاقتراب منه دون زحمة أو مزاحمة دون دوشة أو صخب ايام ولحظات استعيدها فى مدينة موط معه كشريط السينما اعادني اليها الاستاذ شريف قنديل، وكانت سنارة الصيد التي رشقها في القلب زمالته لى فى الجمهورية كأحد فرسانها ورموزها في الساحة الصحفية العربية.
كان الطعم الذي القمة فى السنارة حوار لى مع الشاعر الكبير عفيفى مطر والمنشور في العدد الاسبوعي للجمهورية في ١٢ نوفمبر ۲۰۰۹، واظن انه كان من اخر الحوارات ولا أتجاسر وأقول ربما كان الأخير، لكن الذي في يقيني انه لو لم يكن آخر حوارا فأستطيع ان اقول بجزم انه حصاد اطول لقاء مع الشاعر عفيفى مطر، لانني اعتقد عدم مكوث احد معه لاجراء حوار فى هذه الفترة لعدة ايام مثلما كنا في الوادى الجديد في أواخر ۲۰۰۹ استعيد اللحظات وأمزج بين ما دار معه والمنشور وبين لقاءات سابقه متعدده معه… المهم كانت عناوين الحوار الأخير لي مع الشاعر الكبير محمد عفيفى مطر يخاصم قاهره المعز ويعود لقريته في المنوفية . عدت للزراعة وتربية الحيوان والنحل لأن عالم الفلاحين يربطني بالحياة احاول ان يكون طعامى من عرقي وايامي مجدية لى ولغيري حلمى تزويد مصر بشبر واحد من الخضرة واللغة بجملة واحدة بغداد قرية صغيرة والقاهرة مفزعه ومصر دون طمى لا تكون مصر . الشعر يعانى من البلطجة… والجهلاء يزرعون الفوضى المدمرة في ارضه المثقفون يتحدثون عن شعب لم يعرفوه والتراث الشعبي مهدد بالاندثار في البداية الاقتراب من عالمه يعنى الغرق في محيط من الانسانيه والشعر والسياسة والابداع… صوفية بلا تكلف في معناها الانسانى والابداعي… تراه زاهدا في الحياة وراهبا في محراب الوطن والشعر واللغة والانسان….. بحره بلا شطآن… وأى مفرده فى شعره وكلامه تغرى بالحوار وتجلسك على شاطئه تستمع لشدوه شعرا ونثرا وفلسفة وحكمة، ليس عن الحياة بمفرداتها وشخوصها ولكن ايضا مع الموت واهله ومع تدفق السفر للتاريخ ومن نظنهم من الاموات وتزاحم الحيوات حولنا… كان الطمى هو ملك هذا الحوار الاخير مع الشاعر الكبير محمد عفيفى مطر…
والسبب ان سبب وجودنا فى الوادى الجديد كان ملتقى الفخار الذي اقامته هيئة قصور الثقافة في الوادي الجديد والفخار فن … عماده الطمى تشكله انامل ووجدان الفنان عبر العصور منذ فجر التاريخ الذي ولد في مصر على ضفاف النيل، ومنذ خلق الله الانسان من تراب قبل ان يتحول الى طمى وحمأ مسنون. . قلت في احدى الجلسات استاذ عفيفي… بعيدا عن الشعر وهمومه… ماذا عن حوار الطمى الذى يخاصم الليونة واللون حين يحتضن النار وانت تقول ترکت علاماتى فى الأرض بعد دم على الطرقات.. وعشت بقريتي خمسا وعشرينا اذوق الموتى … اشتعل كانت هذه البداية مفتتح الحوار الذى بدأته عن سبب تركه القاهرة في أواخر حياته واستقراره في قريته رملة لانجب في محافظة المنوفية… لماذا؟
ترى هل هو موقف من المدينة أم كفر بأهلها…؟ ولم أنتظر أجابته وتلاحقت الجمل على لساني… وقلت وهل العودة للجذور والأرض حنين للأصل أم غضبا وخصاما القاهره المعز وأهلها؟!
ما زلت أذكر ابتسامته وهو يقول رجوعى ليس عوده للأرض لكن استمرارا ووصلا بعد قطيعة سببها البعد عن الغرس والأرض والزرع أنا أحب الفلاحة والزراعة وتربية الحيوان وتربية النحل إلى آخره من أمور فى عالم الفلاحين الذي يربطني بالحياة. . قلت ولماذا يكون القرار الآن؟ .
قال أخلاقى وقيمى ومثلى تجعلني أحاول أن يكون طعامى من عرقي وأن تكون أيامي مجدية لي ولغيري، وكما قلت ذات يوم وأقول دائما أملى وحلمى أن أزود أرض مصر أرضا خضراء ولو مساحة شبر واحد واترك فى اللغة ولو جمله واحدة!! الكفر بالمدينة قلت: وهل سلوكك كفر بالمدينة وأهلها أم إيمان وحنين للأهل والجذور؟ .
قال أنا لم أنشا فى مدن ولم اعمل فيها، والمدن التي اضطرتني الظروف للعمل فيها مثل بغداد اعتبرها قرية صغيرة
. قلت لكن القاهرة أمرها مختلف؟
قال نعم هى مدينة مختلفة، وبالنسبة لى مفزعة ولا أستطيع الحياة فيها خصوصا بعد سيادة البلطجة والزحام
. هل تشعر بغربة في عالم الشعر الآن؟ .
قال: توجد بلطجة فى الشعر الآن، وجرأة الجاهل هي السائدة الآن، وانتقل زحام البلطجة الموجود في مظاهر الحياة المصرية الآن إلى عالم الشعر ليزرع الفوضى المدمرة… وأكثر الناس هيمنة فى مجالات الغنى هم الفنانون التشكيليون
. قلت التراث الشعبي في مصر معرض للاندثار؟ . قال نعم بسبب أدوات الاتصال الحديثة مثل التلفزيون ومهرجانات المسرح والغناء والموسيقى إلى آخره كلها تفتت وتمحو مفردات التراث الشعبي الذي لا يمكن إنقاذه إلا بجهود جبارة من التسجيل والتوثيق والبحث وتقليب كل ركن من أركان مصر لتعرف دقائق الوجدان الشعبي ولنعرف الشعب الذي نتحدث عنه ويتحدث عنه المثقفون والصفوة دون أن يعرفوه أو يلمسوا له تكوينا ودون أن يذوقوا طعمه
قلت إذن عن أى شعب يتحدثون؟ .
قال: يتحدثون عن شعب طالع من الكتب والأوراق وأبحاث الكتب واقتراحات النظريات وتفاسير الأفكار وتقاسيم الأفكار التي تبقى دائما مغشوشة وغريبة ويفشل في رصدها الواقع أو فهم التقاطع مع حياة البشر في صميمها وصلتها وفقرها وغناها وآدابها وفنونها لذلك لم تستطع كل النظريات الاجتماعية أن تحفر في أرض مصر ولا في وجدان شعب، تعبيرا أو تنويرا أو طرحا المقترحات أو تفكيك أنماط العصبيات الثقافية والفكرية التي يتناطح في ساحتها مثقفون وريفيون وتنويريون مجرد أبواق وأصداء لما يقرأون .
قلت أنت شاعر والبعض يعتبرك فنانا تشكيليا ترسم بالكلمات… كيف تستفيد الفنون من بعضها البعض؟!
قال الثقافة واحدة والحضارة واحدة والفنون والمسارح يحدث بينها التأثير والتأثر، ومن حظى أننى زرت الكثير من المتاحف والمعارض ومنذ صغرى وأنا اقتنى الكتالوجات وتجد لذلك أثرا في شعري
. هل هناك علاقة جدلية بينك والغيطان والطمى ومصر؟ .
قال لى كما تعرف لى ديوان بعنوان عندما يتحدث الطمي ومصر دون طمى لا تكون مصر، والطمى أولا ما لمسه الإنسان وأسسه في محاولات تشكيل عالمه، والطمى كان أول استخدامات الإنسان للإبقاء على حياته بعد أن فرغ من صناعة الأسلحة وأدوات الصيد والقتال… وكان استئناس الحيوان وزرع النبات ورصد الفصول المناخية ومعرفة علاقة الجو والشمس بالنبات… يعنى فى كل ذلك كان الطمي هو الأساس. قلت: كان للخرافة الشعبية مكان بارز في أشعارك…. لماذا؟ .
قال: عرفت فى شعرى برصد عدد من الخرافات الشعبية المتصلة بالحياة والموت والخصوبة والعقم…. باختصار أنا مشغول طوال عمرى فى شعرى بالخصوبة والعقم والحياة والموت
. توقف الحوار بوعد جديد على استكماله…
لكنه لم يستكمل !!