على قدر العروبة تأتي الخيبات
الكاتبة الجزائرية مريم عرجون
عدت هنا من البلاد الباردة، عدت إلي أحمل خيبة، وبقايا أمل، عدت إلى لغتي، قلقي، حزني، خوفي، وغبار طريقي، أمتص ما تبقى من بقايا مبادىء رثة، عدت لعقلي، وعقلي قصر مهجور تعوي فيه الريح، يجلس به متعبد صنع دينه، وأقام طرائقه للعبادة، فتتساقط منه الكلمات جثثا مشوهة، تعلق على حبل الغسيل، وحزمة من الآهات، والشهيق، والزفير، تتَوَقَّلَ الدماغ، فيروي تاريخ الجروح، والخلفية الدرامية، للتيار الذي لحق بأطراف هذه الأرض المبللة بأثار الدم الذي يسأل من أنا؟
وبها موقد نار يتدفق كنهر عطشان، ينهش أشلاء الصغير، يبحث عن واجهة ومجد، ووطننا عاد كدخان محرقة يشتهي لحم الصغير، و دائما يسأل هل من مزيد؟ ، ذئاب ترقص في سخب مدائنه، وأرضه لا تعرف حدودا للصيد، تمتص بعنف ما تبقى من عروبتنا التي تركض من درب الى درب، مشتتة، وموزعة بين المجهول، والعدم، تجلس على أطراف أرضها على وشك حجز تذاكر الرحيل، والليل على متنه بضائع ثقيلة، وأكتاف جنود هلكت بالحمى، وهم يتوسدون أسلحتهم الصدئة، ونحن حزمة أخلاق تقهقه، تصرخ فرحا، ثم ترتدي هياكل موتى لتحرص الأحياء منا الذين دفنوا أحياء، وتجمعهم ضبابية العيش، فلم نعد نعي كيف ندفن موتانا، قعودا، أو وقوفا، ولا نعي بما نأكل، بالميمنة، أو الميسرة، ولكن لا بأس عندنا من شرب الأنخاب على شرف أطفال فلسطين، المثخنة بالجراح، و ثرثرتنا عنهم خلف المنابر مزعجة، تغالب ضحكة منفلتة بين الحين والآخر، لأطفالهم التي تئن على بقايا الطعام، وكل هذه الهشاشة لجمال كلي، ولطفولة منفلتة من شباك الموت، يتناثر الدم و الأطفال في فلسطين، فتتزين القدس بجثث أبناؤها، ولها في كل جنب خنجر، تصرخ من أرق، تشكوا للذي خلق انسان من علق، و تلوح لنا دماؤهم في السماء نهرا من مسك ومن فلق، هكذا يسيل الدم عندنا رخيصا، حين يتكىء الناس على قناعات الفكر الأحمق عند ارتكاب الجريمة، هكذا ننام، ونصحوا على أنباء الموت المفجعة، فلا يمنع ذلك آذانَ يصدح ولا شيخ يزبد، ولا حزب يهلل موهوبا بتاريخه، ولا حركة تبني مجد أمارة من وهم، وظلام، وفي أعماق منظومة السلام، وحماية الطفولة، يحتكر شيطان صهيون صكوك البدايات، والنهايات، ويمسي متحكما بقرارات الحياة، والموت في أطفال فلسطين.
فيا قدس، أنت الطريق إلى الله، والكل من أجلك يدعي النبوة، ونحن هم الجثث التي تكومت في زوايا أوطاننا، كالضالين للدرب، رمت بهم أمواج العجز، والجبن على تخوم العروبة، فنحتسي بقايا كؤوس الدم البارد، وسيلوكون القهوة المتخثرة في بيوتنا، فكيف نعتذر إليكم يا أطهر الأقدام، أما أنتم فستكبرون عند الله، ونحن إلى التلاشي والنسيان لا تسامحون أبدا.
فاقتربي واسقيني يا قدس الصارخة، دماؤك تغريني، ناديني بإسمي وسوف أصرخ مثلك في وجه أرضي، وعروبتي، “اهجريني، وانسيني”، اصرخي كعاصفة، كإعصار يهمس للأرض، ويسرق الدروب ويقبل جبيني، اخلع صمتنا اللاهث في الفراغ، ومن جذوره، وقسما، وقسما، وقسما، لأجلك نهز الأرض عشقا فخذي دمي، واسكبي في شرياني عشقا أكبر، يا وجع المدائن، ثم توسدي جسدي واحضنيني، فأنا تيقنت أن الموت مجرد فكرة سخيفة لا تخيف إلا المؤمنين بالخرافة، ولك الآن كل شيء خاضع لإعادة النظر، الموت، والحياة، والأديان، والشهداء، والتاريخ، والتراث، والايديولوجيا، وأجساد المقبورين في رمال الأرض، ورماد المتفحمين من شموع العتمة، وهؤلاء الموتى المرابطين، وعلى ثغورهم ما يسمى جزافا بالوطن، فالآن كلهم أمام أطفالك خاضعون لإعادة النظر.
فلك يا محراب النبي نار بقلوبنا باكية، ونحن نقف عند المسجد الأقصى ننتظر أن نسترد العافية، فأرواحنا ذميمة مهجورة في أجساد هاوية، وأطفالك، ونساءك، وشيوخك، ورجالك كلها باقية فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ حتى ليوم غاشية..
فيا قدس بقلبي لك ألف شيء لا يقال وعلى أرضك سكت الكلام والقافية.