مقالات

أيام وليالى معرض الكتاب ” ٢ “


فهمي عنبة

•• مازلنا مع أيام معرض القاهرة الدولى للكتاب الذى تحول إلى عيد للثقافة وموسم للقراءة والفكر والمعرفة بعد أن اختتم دورته رقم ٥٥ الأسبوع الماضي .

 أصبح المعرض الثانى عالمياً بعد معرض فرانكفورت الألمانى ليس بسبب استمراره بانتظام منذ عام ١٩٦٩ إلى ٢٠٢٤ فقط .. ولكن لأنه يجتذب الملايين من الزائرين الذين بلغوا هذا العام أكثر من ٥ ملايين زائر .. ووصل عدد دور النشر المشاركة إلى ١٢٠٠ من ٣٢ دولـة .. والأهـم هو تأثيره فى الحركة الثقافية وتشجيعه للقراءة والاطلاع بين الشباب والأطفال .. وتحريك المياه الراكدة فى الفكر والأدب والفنون والشعر من خلال الأنشطة والفعاليات والندوات التى تعقد خلال أيامه ولياليه .. والتى يتمنى أهل الثقافة وعشاق المعرفة أن تطول فترة المعرض فى الأعوام القادمة !! .

علينا أن نعترف أن الثقافة بمفهومها الشامل هى الطريق لبناء الإنسان وتشكيل وجدانه وعقله ووعيه .. ويحتاج ذلك إلى الاهتمام بالكتاب وإتاحته بسعر مناسب للجميع .. فلا يخفى على أحد وجود مشاكل كبيرة تواجه صناعة الطباعة والنشر خاصة ارتفاع أسعار الــورق والأحبار وتكاليف الطباعة والمـواد الخام .. وهو ما يستدعى إيجاد حلول للناشرين .. وإعـادة مبادرات مثل إصدار سلاسل دار الكتب وهيئة قصور الثقافة .. ولا أدرى لماذا لا تعود ” مكتبة الأسرة ” التى كانت تنشر كنوز التراث وأعمال كبار الكتاب والأدبـاء وتجعلها فى متناول الأسـرة البسيطة ومحدودى الدخل مما ساهم كثيراً فى نشر الثقافة بين النشء ؟! . 

مطلوب أيضاً مساعدة شباب الأدبــاء والمفكرين والشعراء والعلماء على نشر أعمالهم .. حيث تواجههم صعوبات كبيرة فى إيجاد دور لنشر إنتاجهم لدرجة أن منهم من تظل قصصه ورواياته وقصائده وأبحاثه محبوسة فى صدره أو درج مكتبه ولا ترى النور !! .

توجد صعوبات ومشاكل تواجه الحركة الثقافية وتحتاج إلى مناقشات لإيجاد حلول .. وعلى القائمين على معرض الكتاب أن ينظموا ندوات خلال معرض العام القادم بإذن الله لمناقشة العقبات التى تواجه النشر والناشرين وجعل الكتاب فى متناول الجميع بأسعار زهيدة أو معقولة فهذا طريقنا لمواجهة الغزو الثقافى الـذى تتعرض له مصر والدول العربية من الخارج .. والقضاء على أفكار من يريدون إعادتنا إلى عصور الجهل والتخلف والظلام من الداخل !! .

لنعد إلـى أيـام وليالى معرض الكتاب .. وقـد تناولنا فى الأسبوع الماضى ما يطلبه الزائر من خدمات .. وعرضنا لبعض الإصدارات الجديدة .. واليوم لنا وقفة مع أحد الأنشطة المهمة التى أصبحت من معالم كل عام وينتظرها عشاق الأدب والثقافة وهى ندوات توقيع الكتب الجديدة !! .
*******
«شاى بحليب» 
مع ألفة السلامى

•• فى اليوم قبل الأخير للمعرض .. الجو شديد البرودة ورذاذ المطر يتساقط على الــرءوس .. تجرى لتحتمى فى داخل الأجنحة .. تصعد إلى الدور الثانى تدخل قاعة « بلازا » تجد نفسك تشعر بالدفء من حرارة اللقاء ونقاش الحضور .. فأنت مدعو معهم إلى « شاى بحليب » مع ألفة
السلامي !! .

تعيش من أول دخولك القاعة فى حفل توقيع روايتها الثالثة مع عالم الكاتبة الصحفية الأديبة الإعلامية ألفة السلامى الذى يتميز بالحس الإنسانى وإعلاء القيم الأخلاقية التى تدعو إلى الحب ونقاء النفس والتمسك بالأصالة مع التحلى بالإيمان الذى يعين المرء على التحمل والتحدى وقهر المستحيل .. وكما أنها مهمومة بالشأن العام فى مصر وتونس والعالم العربي .. فهاجسها الأول هو الإنسان وما يصيبه وكيف يتغلب عليه .. وهذا تلمسه خلال إصداراتها فى العقد الأخير حيث بدأت بكتابها الأول عام ٢٠١٤ بعنوان « ثورة جسد » وفيه تروى حكايتها مع مرض السرطان الـذى أصابها وكيف تغلبت عليه وكيف تُولد المنحة من قلب المحنة .. وكان كتابها الثانى « كورونيات » عام ٢٠٢٢ وترصد فيه التغيرات التى طرأت على المجتمعات بعد جائحة فيروس كورونا .. ثم جاءت روايتها « شاى بحليب » اسـتـكـمـالاً لمـا بـدأتـه حيث تـــروى قصة طبيب جراح ناجح أصيب « بألزهايمر » وما يفعله المرض بالإنسان وكيف يؤثر عليه وكيف تتعامل معه أسرتة ومن حوله وأثر النسيان عليه وعليهم ؟! . 

وضعت ألفة السلامى يدها على الحل السحري للتعامل مع الشخص الذى يعانى من هذا المرض .. ومن أول سطر  فى الرواية تعطى الأمل والتفاؤل لعلاج كل أوجاع البشر وليس أمراض السرطان وفيروس كورونا أو ألزهايمر فقط .. وذلك عندما كتبت فى الإهداء « إلى كل الخائفين من داء النسيان لعل الحب ينقذهم ».. وتبعت ذلك بتمهيد يؤكد المعنى « وراء كل القصص الملهمة .. حب عظيم » !! . 

بأسلوب رائع تصف « سـوزي » الزوجة الانجليزية لبطل الرواية الطبيب المصرى « عزيز » الحالة التى أصابته عندما تقول « أصبحت عاجزة عن استيعاب ما يحدث من تطور سريع فى حالته منذ هبت العاصفة تقتلع أشجارنا وتردم وردنا وتغرق حديقتنا » هكذا عبرت عن مشاعرها عندما عرفت بإصابته بالمرض !! .

مع الأحداث نعرف أن أخته التوأم كانت هى المحفز له منذ طفولته وكانت تناديه « يا دكتور » وعمره لا يتجاوز ٤ سنوات وظلت تشجعه حتى أصبح طبيباً وجراحاً ماهراً وسافر إلى إنجلترا ليكمل دراسته وتعرف على « سوزي » وتزوجها وأنجبا طفلين وعاشا فى سعادة حتى جاء اليوم الذى بدأ ينسى أهم الأشياء فى حياتة سواء أصابة المرض وراثياً أو ربما بعد تعرضه لأزمة نفسية لفقده أخته المحفزة له .

فكرت « سوزي » ان تنشط ذاكرتة وتحاصر نسيانة بالحب والصبر و بالعودة إلى ذكرياتة وتقول ان ” صندوق الذكريات لكل منا هو الكنز  ” .. وكان يستمتع بالعودة إلى رسائلة القديمة ويندمج معها لانها عمره وطفولتة وشبابة.. وهى وجدت رسالة كان قد أرسلها الى شقيقتة التوأم يصف فيها حبيبتة « سوزي » قبل ان يتزوجها بانها ” زهرةالزنبق البيضاء فى قمة جمالها وكبريائها وهى زهرة النرجس الصفراء لانها تحمل معانى القوة والنخوة والشهامة وهى عصفور الجنة البنفسجى بما يحمله من معانى السعادة والإنطلاق ” فكيف بعد ان يصفها بهذه الشاعرية بانها مثل الزهور ويقف بجانبها كثيراً فى العديد من المواقف فى حياتهما معاً لا تكون بجوارة هى واولادهما وترد له الحب فى مرضه ؟! .

 تفتح الرواية ملف « الألزهايمر » الـذى يعتبره البعض من أمــراض الجينات الـوراثـيـة .. وحسب إحـصـاءات جمعية « ألزهايمر» برئاسة الدكتور طــارق عكاشة يوجد فى مصر نصف مليون مريض .. وفى العالم هناك ٥٥ مليون مصاب تكلفتهم السنوية تصل إلى تريليون دولار وفقاً لمنظمة الصحة العالمية .. ومازال العلماء لم يتوصلوا إلى علاج له .. وقد تناول مرض الخرف العديد من الكتاب والفنانين وكـان « ألزهايمر» محور فيلم لعادل إمـام عن قصة لنادر صلاح الدين من إخـراج عمرو عرفة .. وأصيب به الكثير من المشاهير أمثال الرئيس الأمريكى السابق رونالد ريـجـان والفنان عمر الشريف وريـتـاهـيـوارث وتشارلز برونسون وغيرهم .. ولم نكن نعرف اسم المرض قبل ٥٠ أو ٦٠ عاماً مع أننا كنا نسمع ونشاهد كبار السن وهم ينسون ويتصرفون كالأطفال .. ولم يعرفوا ولم نعرف إنه « ألزهايمر» !! .

تهدف روايــة « شــاى بحليب » إلـى التأكيد على قيم أولها أنه فى عصر القلوب المتحجرة نحتاج إلى علاج مـيـراث جيناتنا .. وتشير إلـى تمسك أبـنـاء الشرق عندما يذهبون إلى الُغربة بأصالتهم وتقاليدهم .. وأن ابتلاءات الله للبشر تطرح أسئلة على المريض وأهله فالمؤمن يعلم أنها اختبار ويدعو الله للشفاء ولأولاده ألا تصيبهم جيناته بسوء .. أما الآخرون فتكون مشاعرهم مضطربة !! .

قصة عزيز « المصري » وزوجته سوزى « البريطانية » قد يراها البعض تناقش قضية الشرق والغرب .. وهناك من يرى أنها التقاء بين الحضارات .. وآخرون يقولون إن الشرقيين يحافظون على تراثهم وتقاليدهم .. بينما الغربيون يعتقدون انهم تتحقق عندهم عدالة الفرص للجميع وان ذلك مازال يحبو فى دول الشرق !! .

ألفة السلامى جــاءت إلـى مصر مـن ٣٧ عـامـاً .. وعاشت بيننا وأصبحت مصرية « بنت بلد » تتحدث بلهجتها « لبلب » وتعرف شوارعها وحواريها وأكلاتها من « الملوخية والكشرى إلى الفول والطعمية ».. ومع ذلك فهى كما تحب مصر والمصريين تعشق تونس « بـرشـا بـرشـا » وتـأكـل « الكسكسى والعجة واللبلابى وهريسة الشطة الملهلبة ».. بل إنها مهمومة بالشأن العربى وكل الأمة من المحيط إلى الخليج .. وزوجها المحامى المشهور طارق نجيدة صاحب المواقف الوطنية المدافع عن حقوق الانسان .. والذى كان يستقبل الساعين لشراء روايتها فى حفل التوقيع ببشاشة وترحاب .. مما يدل على تماسك الأسرة وترابطها.

 ألفة السلامى واحـدة من أبناء «الحلم العربي».. وهناك العديد من عائلتها جاءوا إلى مصر من قرنين وحتى الآن يعيشون مثل أخوتهم التونسيين الذين يقيمون فى مطروح ومدينة الحمام بالساحل الشمالي .. وهى ليست مثل الشاعر الكبير بيرم التونسى الـذى احتضنته مصر وتبرأ منه عائلته التونسية.. وعندما تشعر بأن فى أسلوبها وحياتها نزعة صوفية فهذا راجع لأنها جاءت من البلد الذى شرفنا منه الإمـام أبوالحسن الشاذلى وغيره من أهل التصوف .. أما شاعريتها فتعود إلى أبوالقاسم الشابى الذى قال : « من لا يحب صعود الجبال .. يعش أبد الدهر بين الحفر» فكانت حكمتة وكلماتة النشيد الوطنى لبلاده ودستوراً لكل تونسى .. ولأن لكل إنسان نصيباً من اسمه .. فمعها ومع زوجها وروايتها تشعر بالألفة من أول لقاء وأول سطر فى الرواية !! .

تقول ألفة السلامى لا أكتب لمجرد الاستمتاع أو لصفاء الـروح فقط ولكنى أكتب لأبــرأ.. أما عن حكاية « شاى بحليب » فقد كان بطل روايتها الطبيب عزيز يتندر قبل مرضه ممن يشربون الشاى بالحليب ويردد أن الإنسان يجب أن يتوقف عن شرب اللبن الحليب بعد أن تفطمه
أمه .. فإذا به بعد مرضه بداء النسيان يطلب منهم أن يعملوا له كوب « شاى بحليب » على الطريقة الإنجليزية ويشربه !! .

زر الذهاب إلى الأعلى