مقالات

د. هويدا عزت تكتب”الألم الإيجابي” كيف حولت المعاناة إلى قصص ملهمة؟

تُطل الحياة علينا بصرخة حانية، تُبشر بقدوم إنسان جديد، هذه الصرخة هي أول رسالة تُرسلها لنا الحياة؛ لتُخبرنا بأن رحلتنا القادمة مليئة بالتحديات التي قد تُغير مسارنا بشكل مفاجئ، وتُجبرنا على السير في طريق جديد لم نكن نتوقعه، هذا الطريق له خيارين مصيرين، وكل اختيار سيُشكل قصة حياتنا، قصة قد تُلهم الآخرين أو تُعلمهم دروسًا قيمة

ويشكل المرض أحد تحديات الحياة، وينظر إليه باعتباره رحلة شاقة تترك آثارها على الجسد والنفس، وتُخلف وراءها ندوبًا من الألم والحزن، لكن في خضم هذه المعاناة، قد تكمن مفاجآت لم نتوقعها، فآلام الحياة، بما فيها آلام المرض، قد تكون في الواقع مصدرًا للإلهام ونبعًا للحياة، وهو ما يمكن أن نُطلق عليه “الألم الإيجابي”، الذي يُعيد صياغة مسار حياتنا من الفشل إلى النجاح.

ومن أشهر قصص “الألم الإيجابي”، قصة “بول ألكسندر”، الذي أُصيبه بمرض شلل الأطفال، عندما كان في السادسة من عمره، أدى المرض إلى عدم قدرته على التنفس بمفرده، وتم وضعه في رئة حديدية، وهي عبارة عن أسطوانة معدنية كبيرة تغير ضغط الهواء لتحفيز التنفس، بحسب سيرته الذاتية.

وتقول “دوريس ألكسندر”، والدة بول، في سيرته الذاتية: أخبرنا الأطباء أن بول “لا يمكن أن يعيش”، إلا أنه قضي بقية حياته داخل رئة حديدية، ونال عام 2023 لقب أطول مريض على قيد الحياة بهذه الآلة من قبل موسوعة غينيس للأرقام القياسية.

ولم تكن طموحات “بول ألكسندر” محدودة بحالته، فبالرغم من أنه كان يعتمد على الرئة الحديدية للتنفس، إلا أنه تمكن من إكمال دراسته القانونية وحصل على درجتي البكالوريوس والدكتوراه في القانون من جامعة تكساس، واستمر في مُمارسة مهنة المحاماة لمدة 30 عامًا، كمحام ناجح مدافعًا عن حقوق ذوي الإعاقة وملهمًا الآخرين بمثابرته وتصميمه.

كما نشر أيضًا سيرته الذاتية بعنوان “ثلاث دقائق لكلب: حياتي في الرئة الحديدية”، “Three Minutes for a Dog: My Life in an Iron Lung,” ، والتي تحمل عنوان إنجازه في تعلم كيفية التنفس بشكل مستقل لمدة ثلاث دقائق على الأقل.

كما ناصر “ألكسندر” جهود مكافحة شلل الأطفال، وساهم في نشر الوعي حول هذا المرض وأثره على حياة الناس، وقال في أول فيديو له على تطبيق “تيك توك”: “ملايين الأطفال غير محميين ضد شلل الأطفال، يجب أن يكونوا كذلك، قبل أن يكون هناك وباء آخر”.

وفي 11 مارس 2024 رحل “بول ألكسندر”، عن عمر يناهز 78 عامًا، تاركًا وراءه إرثًا عظيمًا من الإلهام والشجاعة، فقد واجه تحديات هائلة في حياته، لكنه لم يستسلم أبدًا، عاش حياة كاملة وغنية، محققًا العديد من الإنجازات، وملهمًا الملايين حول العالم.

ولم تكن قصة “بول ألكسندر”، الرجل الذي قضى أكثر من 70 عامًا من حياته داخل “الرئة الحديدية”، استثنائية في قدرتها على إلهامنا فحسب، بل هي واحدة من بين حكايات لا حصر لها لأبطال حقيقيين واجهوا تحديات جمة في حياتهم، لم يستسلموا لها، بل حولوها إلى دافع للنجاح وإشعاع للأمل.

ففي رحلة مماثلة للإصرار والتحدي، نجد قصة الدكتور “طه حسين”، الأديب والمفكر الشهير، الذي واجه فقدان البصر في طفولته المُبكرة، لم تثنه هذه الظروف القاسية عن السعي وراء المعرفة والعلم، بل استعان بذكائه وإرادته ليتعلم القراءة والكتابة، وواصل رحلة تعلمه حتى نال شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون في فرنسا، ليصبح بعد ذلك رمزًا للأدب والفكر العربي، وأستاذًا متميزًا في جامعة القاهرة، وعميدًا لكلية الآداب.

ولم تقتصر إنجازات “طه حسين” على المجال الأكاديمي فقط، بل كان له دور بارز في الحياة العامة، حيث دافع عن حقوق المرأة والعدالة الاجتماعية، وناضل ضد الاستعمار، كما تُعد مؤلفاته من أهم الأعمال الأدبية والفكرية العربية، ومنها كتابه “الأيام” الذي يروي فيه سيرته الذاتية، وكتابه “مستقبل الثقافة في مصر” الذي يُناقش فيه قضايا التعليم والثقافة في العالم العربي، بالإضافة إلى هذه الأعمال، ألف “طه حسين” العديد من الكتب والمقالات في مجالات التاريخ والفلسفة والسياسة، ولا تزال أعمال “طه حسين” تُقرأ وتُدرس حتى اليوم، ولها تأثير كبير على الفكر العربي.

وتنتهي قصتي “بول ألكسندر” و “طه حسين” بأن الإنسان بقدراته وإمكانياته الهائلة قادر على تخطي أي صعوبة وتحقيق المستحيل، كما تمنح كل قصة درس وعبرة تُثري تجاربنا، وتُعلمنا أن الإصرار والمُثابرة هما مفتاح النجاح، وأن اليأس والاستسلام هما عدوان لدودان يجب علينا مقاومتهما.

ومهما واجهنا من صعوبات وعقبات، يجب ألا نفقد الأمل، بل يجب أن نستمر في السعي والتحدي، ونؤمن بأنفسنا وبقدرتنا على تحقيق ما نصبو إليه، ولا ننسى أن وراء كل قصة نجاح، رحلةٌ مليئة بالتحديات والتضحيات، لكن الإيمان بالأحلام والعمل الجاد هما اللذان يقوداننا إلى تحقيقها.
الكاتبة باحثة في العلوم الإدارية وفلسفة الإدارة

زر الذهاب إلى الأعلى