جارح الوتر
مريم عرجون
أنْسَربُ في جسد الكتب، ألاحق ظلّي و أطارد لهب التواريخ، تأخذني وحشة الروح رهينة هناك على طَرَف البدء لتخبو الكلمات شيئا، فشيئا، حتى أجد نفسي أنني لا أملك ما يُقال، وكل ما في هذه الكتب هو مجرد رمال تتناثر في الأصقاع، و على طَرَف الصَّقْعِ هناك ضوء شاحب فوق الرمل الراعد، يطوي عقلي البارد على موكب الكلام، فينهض في جسدي جيش من الكلمات ينهالون، ويبتهلون، ويختلطون، ثم يخترقون، و يضطربون في عقلي مثل الفتنة، وبعدها يمتحنون صنوف الكتابة بشَغَفٍ مصقول الحرف على جسدٍ أصابعه تتوتر من فرط الحب، فكيف لهذا العقل أن يتكلم عندما تتلاشى فيا دهشة الأشياء، و أغفل عن كل معنى للسؤال الذي يُضْنِي، بينما قسمات الكلمات حولي تستجير من قروح عقلي المشدوخ بوَحْشَة الأسئلة التي تنهض من ثمانية وعشرين حرفا عابرة، جدلا، ونزفا لعقلي المسلوب، وليس هناك ما يصلح به الخلل، والقلب صخرة صماء يتوسّد الجمر على بوابات وحدته، و لا تثيره حضارة اللغاتْ، وبين هذا وذاك سرت دونما وعي، وقدماي تطوف بي في المنعرجات لتبقيني في زوايا الكتب، و في فوضى الكلمات، تائهة في نشوة من صبابة وغرام، متهاوية وليس لي ما يقال، لأن ما عندي سجينا في الشفاه، ولساني أصابه الشلل، وبات قلبي منعزلا، ووحيدا في سراديب الخَبَل، تراني أتأوه أنظر للضوء الشاحب بين رفات أحلامي بينما الشعور الرهيب يكتنفني وهو يشكوا لوعة النظر لعينيه التي رَمَتْنا بالسهام، فتاه نظري في لا منتهاها وضعت أنا وقلبي ونظري في عينيه وأنا الذبيحُ وما عرفت اتجاها و ما عرفت منتهاه.
ويحك يا طير الغربة، يا راعش النظرة، السهم الذي كان نحوي لف جسدي المرتد تحت جناحيك و تنهّد، فاستفاض من قميصك مطر يغسلني، ثم تربعت في جنبي الأيسر يا جارح الوتر، مغروسا كشعلة نار بريئة، صافية، و قوية، و هيأت كل الفصول والطقس والقانون والتاريخ المشاغب بنبرك المسترسل و المتراقص داخلي، فَشُلَت أنفاسي، و غارت خفقاتي، و آل قلبي مهلوك ورهن الإشارة بنظرة من عيناك الهالكتان التي كانت فِرْدَوْس مكدود بوهج نار، فاغرورقت فيهما كدمعة ماسية، و تساقطت من ها هنا حبّاً وفرحاً، وغبت في حرمة الأسرار، بينما أنت مسافر بعينك عبر شقوق عينيا المرتخيتان، ثم لملمتني بابتسامتك، وتناثرت عليا كأزهار الياسمينِ، فاستنشقتك حلما بروعه الهذيان.
آه ثم آه، من موت جاءني من مقلتاك، آه لو تدرك كيف مر الرحيق الذي ضم روحي الظمأى، و جسمي النحيل الذي كان صحراء خلفها صحراء تنأى، وأنا جسد في شبه احتضار مطوي على الوحدة الخرساء، آه لو تعرف أني تساقطت مطراً ملوّناً، و أنك اِنْهَوَيت مسكا في حضرة الصَبْوَة، وزحفت خلف الطرف، والجيد، قبلة خرساء ضائعة في كتائب القتال، عشرين عاما تتردد لتدفع لَهِيبها ثمن لجَرِيمَة لَثْم الشفاه، و ما عاد في جسدي وتر يخاف اللمس.
ومن يومها وأنا عَاصِفَة مُتَلَفِّعَةً أسفل العروق، أَجْلِس محمومة بك، و طيفاً ممزوجاً باحثة عن حياة هاربة، دوخها المسيرْ، ودوخها المصير، مكتظة بقصائد تتنهد من فم عاشق مزدحم بالقبل، من يومها وأنا أركض إليك عارية القدمين، إلى بوابات مدك، وجزرك، وإلى عينيك اللتان تعيدان ترتيب الفوضى داخلي و تغرقني في تفاصيل سرمدية حيث لا زمان ولا مكان باحثة عن لون يتغير كما المزاج، عسل ممزوج بالشمس وليل محشو بالأنغام، أتجول في بهو الأماكن المكتظة بصوتك و ببصمات أصابعك، أبحث في الأسطح والجبال والمدن الصماء، أفتح أزرار الأبواب التي يئن خشبها المجروح من بقايــــا الوشم على اللوح، و في الشوارع المحسورة التي أرهقها الغياب، و خلف غيابك الذي يداري الغياب بيني وبينك، وكأنه معراج من نار لذا أمامه أصلي لله ولعينيك لأنتشي فتنة الغوى، والجنون، من يومها وأنا أركض بين صفحات الكتابة، وعلى الخرائط، حبراً بعد حبر، وكلمات بعد كلمات، حتى وراء الحرف الذي لا يكتتب، وأجاهد الحرف للوصف، لكن عيناك تجعلني أعجز عن الحديث مكتفية بالذهول، فكل حرف يذكرني بعينيك، وكل قصيدة كتبت تأخذني إليهما، ففيهما خلقت المعاني، وعلى ضفافهما استراح الجمال الذي يغلبني من نور رُشّ من مقلتيك، ويأسرني الحال و يطغى علي الحنين في زوايا الفجر العميق، و أنا أعوذُ من فجرٍ لا أناجي فيه عينيك وعيوني طيور مهاجرة أرهقها الشوق.