الواجهة الرئيسيةفن وثقافة

لماذا يحترق عباقرة الموسيقى سريعًا؟

في عالم الموسيقى، كثيرًا ما يبدو أن العبقرية تحمل معها قدرًا لا مفر منه: ومضة ساطعة تضيء السماء لوهلة، لكنها تختفي سريعًا. عباقرة الموسيقى تركوا إرثًا خالدًا رغم أن أعمارهم الفنية كانت أقصر بكثير مما يستحقه إبداعهم. هل هو الشغف الذي يحترق سريعًا أم أن العبقرية نفسها تحمل بذور فنائها؟

لنبدأ مع سيد درويش، الأب الروحي للموسيقى المصرية الحديثة. ورغم أنه رحل عن عالمنا في سن الـ31 فقط، إلا أن تأثيره ما زال ممتدًا حتى اليوم. أعاد تشكيل هوية الموسيقى المصرية، وابتكر ألحانًا تجاوزت حدود الزمن، وكأن سنواته القليلة تكفي لخلق ثورة موسيقية كاملة.

ثم نجد محمد فوزي، الذي لم يكن مجرد مطرب بل ملحنًا ومنتجًا موسيقيًا استثنائيًا. في سنوات قليلة، وضع بصمته في تطوير الأغنية العربية وابتكار الألحان الحديثة، كما أسس أول شركة لإنتاج الأسطوانات في مصر. لكن مرضًا نادرًا أنهى حياته في الـ48، ليترك خلفه إرثًا فنيًا يفوق عمره القصير.

أما عبد الحليم حافظ، العندليب الأسمر، فقد عاش حياة حافلة بالنجاحات والصراعات مع المرض. رغم وفاته في سن الـ47، إلا أن صوته لا يزال حاضرًا في الوجدان العربي، كأن روحه لم تغب أبدًا. كان العندليب مثالًا للفنان الذي يحوّل الألم الشخصي إلى إبداع خالد.

ولا يمكن أن نغفل أنور منسي، عازف الكمان العبقري، الذي حمل الكمان كامتداد لروحه. عاش حياة فنية قصيرة لكنها كانت كافية ليصبح أحد أعمدة الموسيقى الشرقية، رغم أن الموت اختطفه مبكرًا، تاركًا خلفه ألحانًا تحكي قصته.

ومؤخرًا، ودعنا الملحن الموهوب محمد رحيم، الذي قدم أعمالًا خالدة رغم أن رحلته الفنية لم تدم طويلًا كما كان يستحق. استطاع خلال سنوات قليلة أن يترك بصمته المميزة في عالم الموسيقى، بتوقيعه الخاص الذي جمع بين الحداثة والأصالة، قبل أن يرحل ويترك خلفه إرثًا فنيًا يبكيه عشاقه.

ورغم هذا النمط المتكرر، هناك استثناءات لافتة مثل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، اللذين عاشا طويلًا وحافظا على تألقهما لعقود. ربما السر كان في قدرتهما على إدارة موهبتهما بحكمة، وتجنب الاستنزاف العاطفي والجسدي الذي يستهلك كثيرًا من الفنانين.

قد يكون السر في أن الموسيقيين العباقرة يعيشون حياتهم بنبض أسرع من الآخرين. ألحانهم تختصر مشاعر وأزمنة كاملة، وكأنهم يضغطون العمر كله في مقطوعة موسيقية. يمضون سريعًا، لكن موسيقاهم تظل خالدة، تهمس في آذان الأجيال بأن العبقرية لا تُقاس بطول العمر بل بعمق الأثر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى