مقالات

العالم يقرأُ المأساةَ كجريدةٍ قديمة يا غزة

مريم عرجون

خلف حِيطان من هَشِيم، هناك في زوايا الأوطان، عيد التوحيد فينا مقفر، مُتكئ بأنفاس الورى، والمدائن و القرُىَ، يدق أبواب القلوب التي ملكها الصدأ، ولكن لا باب فينا يطرق، ولا نوافذ في الجدار، عيد يأتي في صمت، ويمضي في صمت، و نحن الحيارى المتعبون، نحن الفرح المر المتربع في أعماقنا، نحن الجائعون والبائسون، نحن رغيف العيد الأسود المدفون في جوفنا، بل صرنا صُمّ بُكْم عُمْي لا نعي كم هو باهت، وكريه ايقاع العيد هذا، فهل نحتاج حروفا جديدة و مفردات أخرى، بل لغة مختلفة للحديث، والكتابة في حقيقة ما يجري، ونفتح دهاليز العروبة، والنخوة المستعمرة التي تداعت، و اهترت، لربما تغطى محفل أحزان غزة، ليست فلسطين من لا تعرف العيد بل نحن من نمشي في صمت، و الأرض ضاقت بنا، ولا ندري ها هنا معنى العيد، فأوطاننا ها هنا كأس وغانية، وإيوان مفتوح للأشباح، أوطاننا ها هنا مرهقة من حفل، وراقصة ومهر، و على أكتافها رماد الموت لعروبة قد اغتصبت، عروبة أثملت من الجبن صحوا، وما رأت هاته العلل، عروبة تسرع في موكب البيع الرخيص في زمن الفطام إلى أسواق النخاسة التي غاب فيها البائعونْ، أو ربما هناك أين يسكر المتآمرون، و تحت النعال يركعون، ويصافحون بعضهم، وفي كل يوم كالقطيع يأتون صفوفًا يسجدون، يا أيها الأحياء، أو أحياؤنا الموتى، ألا زلتم تسبحون، إن تسابيحكم مكتوبة في السراب وغزة في كل شبر تصرخ، تسبح في الدماء لتُباع الأمم، الأمم الثكلى الجالسة في صخب الوطن الجريح، و في المفارق يسكرون، يا لسفهكم ولسفه الزمن العقيم الذي أجهض غزة العريقة، عيد مبارك يا أمة العرب، أطفال صبيان، و بعضكم صار يكتهل، و كلكم أجناس، و مراحل كلها ترتحل، حتى سلطانكم لن يعود سلطان فغدا بالكفن، وللعين يكتحل، عيد مبارك يا أمة الضاد، و المحراب والكتاب، أما اشتاقت صحائفكم الحكمة، والرّشاد، أم تلعثمت الشفاه الظماء، و زالت مساحيق الكلام من أمة عظمى لم تعد تغطيها الثياب، عيدك مبارك يا غزة ففي رحاب قدسك تنبت الأكفان، و تخرج من شقوق الأرض حتى تَشُقُّ صدرَ السماءِ بأنينها، في رحاب غزة ملاعبُ العيد قد صارتْ مقابرَ جماعية، ومدارسُ العيد قد تحولتْ إلى ملاجئَ للموتى، وأمهات غزة تقبلن القبور ثم تمسحن بأيديهن الدماء عن وجوه أطفالهن، و تَحنطن العيد بين أضراسِ الصبر، وتخبئن قبلة العيد الجميلةَ في جيوبِ الثيابِ الممزقةِ كي لا تَضيعَ في الظلمة الهاوية، أما العالم يغسل يديه عن رحاب غزة، ويغني بينما تُدفن الجثث هناك، يعيش حياته وكأن شيئًا لم يحدث، إعلامٌ يتحدث عن “حقوق الإنسان”، وحكوماتٌ تبارك المجازر، وشعوبٌ تتابع المأساة بين فنجان قهوة، ومنشور على فيسبوك، نعم عالم يقرأُ المأساةَ كجريدةٍ قديمة، وهو غارقُ في بحورِ النعيم، أتقرؤونَ أخبارَ غزةَ بينَ رشفاتِ القهوةِ وتصفُّحِ الهواتف؟ أترونَ الدمارَ ثم تَرمونَ الصفحةَ كما تُرمى قشورُ الفاكهة؟ لقد صارَ الدمُ الفلسطيني أرخصَ من حبرِ الجرائد، وصارَ الألم مجرد رقم في تقرير أممي يُدفنُ في الأدراج، نعم العالم يرى رمضان، يرى ما لذ وطاب، يرى الثياب يرى العيد يرى الدماء، لكنه لا يرى فلسطين، لأن في نشوة الطغيان قد ارتاحت العرب، ونامتْ، وراح الجميع يتثاءبون، وهم في اليم غارقون، أما أتعَبَكم السّهادُ؟ إلى متى تحركنا جرذان ماردة؟
كم من طفل يجب أن يُدفن حيًا تحت الركام قبل أن يصرخ الضمير العالمي: كفى! غزة تُذبح كل يوم، إلى متى العالم يتفرج، إلى متى غزة تموت والعالم يصمت، إلى متى غزة تنزف والعالم يغني؟ إلى متى أيتها الأمة الشاردة على الصفحة الباردة، دماء الغزيين تقطر من جبين الإنسانية كلها، فكفى هذا السهاد يا أيتها العرب، ما عدت خير أمة أخرجت للناس، و كفى تواشيح النخوة الزائفة، فكلكم في طابور الهاوية كريشة علقت على سلم من لهيب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى