مقالات

عريضة مغترب

مريم عرجون

سَقِيم الحلم مكسور الخُطى جاء من بعيد، جاء من وطن مرفوع الجبين، يفتش عن رفيق، وفي عينيه مأوى للنازح، وللكادح، ومأوى للغريق، اِلتحف السماء التي تتساقط مطراً، وحبراً معاً، واِفترش الأرض ببقايا شوق ملقاة في الطرقات، ليخط مستقبل بلده بأنامل من حديد، وهو يخبئ تحت جفنه وطنا، بعيون ترجو الغد، بينما خلف المدى الزمن يشبه النعش، و البشر جميع البشر يبدو أنهم دمى مصنوعة من القش، القش الذي يعانق بتول الذكريات، وكلّ ما حولها مثير للوجوم، و المخفي يخيف عن عريضة مغترب، نعم مغترب، ما إلا ظلٍّ بين الظلال، فلا حاجةَ لأن أُفصِحَ لكم عن كل شيءٍ، لأنه مهاجر عاديٌ لا يستحقُ أكثرَ من نظرة عابرة، يُشبهه الآلافُ بل الملايين في الشوارع، يتَشاركون ذاتَ الملامحِ الباهتةِ، والأجساد البالية، لكنْ هناكَ شيءٌ واحدٌ يدافعُ عنه بشراسةٍ كأنه آخرُ معاقله: وطنه الداخليّ، ذلكَ الوطنُ المقدسُ، حيثُ ولدت أحلامه، وحريته.
قد يبدو لكم تافهًا، قد ترونه مجرّدَ رقمٍ في سجلٍّ ضائع لا يهم، لكن هناك في الشوارع، والأزقة، والممرات، والحناجر، صوت عدو دنيء خافتٌ اتجاهه كجرس أفعى، تلدغه كلّ يوم، وتحمحم في صدره “لا تَحن لهذا الوطن الزائف، أرفضْه إن اِستطعتَ، وحاربهُ إن تجرّأتْ، وإنْ عجزتَ عن ذلك، فلا تندمجْ فيهِ على الأقل”.
نعم، قد يقولُ البعضُ إنهم غريبي الأطوار، أو أنّ في أعينهم شيئًا من الغموضِ المُريب، حتى سِجلاتُ الشوارع تذكرُ أساميهم تحتَ بندِ “الخطرِ المحتمل”، ويسمعون في العديد من المرات همسات الآخرين “انظروا، إنّهم ملاعين”، يضحكون، فماذا عساهم أن يعرفوا عنه؟ ، إنه مجرّدُ إنسان مغترب منهك، و عابر محبط، عاطلٌ عن الوطنِ منذُ زمنٍ طويل، يحملُ همومًا صغيرةً كالغبار، ويعيشُ حياته أكثر في مملكةِ الحنين، ومن الحنين هذا، كثيرًا ما اِستوقفني بيت اِمرئ القيس:
وقد طَوّفْتُ في الآفاق حتّى رضيتُ من الغنيمة بالإيابِ
نعم نحن الطوافون، والعودة إلى الأصل هي الغاية الأسمى لنا، نحن المغتربون عن أوطاننا، نحن المنقبون عن كلّ أنواع الرفاهية الإنسانيّة بين دول تجرح الشفاه حِيرةً، وتُذْري دم العِطْشِ على أَفَاهِيهَا وهي تَتَوَقَّى قُبْلَةَ السَّلامِ، و نحمل في صدورنا قلبين، قلبٌ ينبض بحنينٍ لا يُشفى، وقلبٌ يتعلم النبض على إيقاع الغربة، لأنها لنا زمنٌ معلّق بين ذاكرةٍ تذوب، وحاضرٍ لا يرحم، إنها الاغتراب عن الجغرافيا، والاغتراب عن الذات، والاغتراب عن وطنٍ بات يتنكّر لأبنائه، كأنهم ظلٌّ زائل أو حلمٌ لم يعد يُذكر. نعم نحن المغتربون، كنا نعدّ أن الوطن كحقيبة سفر نحملها معنا، قد تكون ثقيلة ومتعبة، لكن الشغف بالسفر، والترحال والمغامرة كان الدافع وراء اِنجذابنا إلى الغربة، شرط أن يرافق ذلك شعور بالأمان والاِستقرار واِحترام إنسانيتنا، حتى نتمكن من أن نكون فاعلين، ومنتجين، ومعطاءين، ولنحقق الاِستمرارية التي نَرِنُو إليها، لكن حرقتنا دموع المتعبين، و نمى شعور الاِنتماء والحنين إلى ذلك الوطن المغروس حبّه في وجداننا أكثر، حتى أزماته نشعر بها أضعاف ما يشعر بها القاطنون فيه، وأصبح الوطن أغلى وأثمن، فلا أحد ينجو من حبّه، ولا مغترب نجا من الانتماءين، فلا هو هنا، ولا هو هناك، وكأن الزمن لم يسرِ في الغائبين كما سار في الحاضرين، فالضياعُ بين الانتماءين ليس مجردَ شعور عابر، بل هو جرحٌ نفسيٌّ يَستبطِنُ صراعَ الهويةِ، والذاكرةِ، والوجود، ورغم كلّ شيء، نحن جسورٌ بين العالمين، نحمل ثقافة الوطن إلى المهجر، ونحمل خبرات المهجر إلى الوطن، نحن أبناء اللا مكان، لكننا أيضًا أبناء كلّ مكان.
نعم نحن المغتربون، ندرك تماماً أننا وُلدنا منذ آلاف السنين، و نعلم مكان ولادتنا، وقد تعلمنا دروس الحياة في كل تجربة خضناها، كما أتقنا فن الموت في كل مرة، وعيوننا كالبوصلتين، دائماً ما تتجه نحو وطننا، لأن في وطننا نحن غير معنيون بالاتجاهات، لا يعنينا اِتجاه المشرق، والمغرب، ولا تعنينا الحدود، ولا الخرائط، ولا موقعنا، ولا جهة البوصلة، فنحن هي، وهي نحن، وعلى الرغم من بهاء الغربة، فأينما ولّينا وجهنا ثمة وجه وطننا، ينـداح، ينـداح، و لا تخطئ بوصلتنا، لأننا لسنا الأفعى التي تتخلص من جلدها سنويًا، لتصنع منه محفظة تحمل بطاقة وطن جديد، لأن وطننا حاضراً في التين، والزيتون، والسنين، وفي طور الذاكرة، وهنا فقط طعم المدن التي تفتقر إلى الذاكرة، و وطني ذاكرة، و نكهة أخرى، لأنه بيتا بين أكتافنا يغشاه الغزاة.
لكن متى سيتطلع علينا هذا الوطن الذي اِسْتَوْطَنَ حناجرنا، بعد أن أَثْقَلَت الوَحْشَة ملامحنا؟ أم هل يكون قادرا على استحضار ملامح أبنائه؟ أم سوف يعلمُنا الغربة أكثر؟
فهلا نصحح الكلام، ونصحح الملامح، إنها ملامح أبناءك المغتربون الذين لا زالوا يمثلون جزءًا لا يتجزأ من نسيج المجتمع الوطني، والاقتصادي، ومن الضروري أن تدرك الدولة أهمية رعاية مواطنيها الذين صاروا في رف النسيان، فثمة ما يُحَوِّرُ من أجل عزل ملامحهم عن الوطن، لذا لا بد من أن نصحح السؤال، ويقدم هذا الوطن الدعم اللازم لهم لتعزيز الروابط بينهم وبين وطنهم، لأن الإهمال الرسمي لا يؤثر فقط على الأفراد، بل ينعكس أيضًا على الوطن كليًّا، هذا الإهمال الذي يتسلل منه عدوك الْقَدِيْم، فلماذا لا نصحح المشهد المتكرر لواقع المغتربين في المهجر الذي يفضح حقيقة مريرة من الإهمال والإهانة، هلا صححنا السؤال مرة أخرى يا وطني، الذي يستدعي التدخل الفوري، والجاد من قبل الجهات المعنية لمعالجة هذه المشكلة، وتحسين وضع المغتربين في الخارج، فمن الضروري أن تتبنى الدولة استراتيجيات دعم فعالة لمواطنيها في الخارج، وتأسيس مجلس وطني ينظم شؤون الجالية، لأن غيرنا يرى معاناتنا، وتفككنا يظهر الفشل الكبير لحكوماتنا في تقديم الحماية، والدعم لمواطنيها، لذا، إن تعزيز العَلاقة بين الدولة ومواطنيها في المهجر يعد خطوة أساسية نحو بناء مجتمع متماسك، وقادر على مواجهة التحديات، و علاج الخطأ المتكرر في جثة العقول والإدارات والإرادات.
ولي ما أقول، و سأثني اللسان على جُمْلَة، “أننا صححنا السؤال”، فكن أيها الوطن شفيعي وكن رسولي، فروحي لا زالت وطنية وعربية، ولا زلنا نتطلع فيك طول العمر، لذا نريد أن نسمع بلادي تقول: كن فكان ما جرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى