الإعتذار… ثقافة الغائبين الحاضرين

في زمنٍ تضخّمت فيه الأنا، وتضخمت معه القسوة،
غابت عن مجتمعاتنا عادةٌ عظيمة، وسلوكٌ راقٍ لا يقوم به إلا الكبار:
ثقافة الاعتذار.
لم يَعُد الاعتذار فضيلة، بل صار في نظر البعض ضعفًا…
وكأنّ الكرامة لا تكتمل إلا بالعناد، وكأنّ الرجولة لا تُثبت إلا بالتمادي في الخطأ،
وكأنّ المرأة القوية هي التي “لا تعتذر مهما حدث”.
وهكذا، ضاعت قيمة الاعتذار، ففسدت العلاقات، وتكاثرت القلوب المكسورة.
⸻
❖ ما هو الاعتذار فعلًا؟
الاعتذار ليس مجرد “كلمة آسف”.
هو وعي، هو نضج، هو شجاعة.
هو أن تعترف أنك أخطأت دون أن تبرّر.
أن ترى الألم في عين من أمامك، وتشعر به، وتختار أن تداويه لا أن تتجاهله.
هو ببساطة: أن تُغلب إنسانيتك على كبريائك.
⸻
❖ لماذا غابت ثقافة الاعتذار عنّا؟
- الخوف من تقليل القيمة
يعتقد البعض أن الاعتذار يُنقص من قدره، أو يُظهره بمظهر الضعيف،
بينما في الحقيقة، لا يعتذر إلا القوي،
القوي بما يكفي ليعترف، وناضج بما يكفي ليتحمل المسؤولية.
- التربية على الكِبْر لا على الإصلاح
نُربي أبناءنا على التفوق، لا على التواضع،
نُعلّمهم كيف يُنافسون، لا كيف يُصلحون ما أفسدوه.
وحين يُخطئون، نقسو عليهم، فنزرع فيهم خوفًا من الخطأ، لا رغبة في التصحيح.
- الخجل المَرَضي والمراوغة
بعض الناس يخجل من المواجهة، فيتهرّب من الاعتذار بأساليب مبطنة:
ضحكة مجاملة، هدية صامتة، أو تجاهل تام…
بينما كلمة واحدة بصدق كانت لتكفي وتُداوي.
- ثقافة “مش فارقة” و”هو كبر وخلاص”
نُقلّل من مشاعر الآخرين، ونُقصي حقهم في الاعتراف بالخطأ،
فنظن أن الزمن كفيل بمحو الأثر،
ونسينا أن بعض الكلمات التي لم تُقال، بقيت في القلب ندوبًا للأبد.
⸻
❖ أشكال الاعتذار التي نحتاج أن نُعيد إحياءها:
✦ الاعتذار في العلاقات الأسرية
كم أب اعتذر لابنه حين ظلمه؟
كم زوجة اعتذرت لزوجها حين أخطأت؟
وكم زوج قال لزوجته: “أنا آسف، كنت قاسيًا دون قصد”؟
في بيوتنا، نمارس الأخطاء يوميًّا…
لكن الاعتذار غائب، كأنه ضيف ثقيل لا نُحب استقباله.
✦ الاعتذار في العمل
كم مدير اعترف لموظفيه أنه تسرّع؟
وكم موظف قال لزميله: “آسف على سوء الفهم”؟
مكاتبنا تمتلئ بالتوتر… لأن الاعتذار غائب، والمكابرة حاضرة.
✦ الاعتذار في الشارع والمجتمع
حين تدفع أحدهم بلا قصد، حين تتعدى باللفظ، حين تتسبب في أذى،
لماذا لا نقول: “أعتذر” ببساطة؟
أم أننا نظن أن الشارع لا يحتاج للأخلاق؟
⸻
❖ من أين نبدأ؟
- نعيد تعريف “القوة” لأنفسنا ولأولادنا
القوة ليست في كتم المشاعر، ولا في الإصرار على الخطأ،
القوة في التواضع، وفي الاعتراف، وفي الترميم.
- نُعلّم أولادنا أن الاعتذار لا يُنقص من كرامتهم
بل هو علامة نُبلهم، وسموّهم،
أن تعتذر يعني أنك إنسان، قادر على التطور، لا على العناد.
- نعتذر بصدق، لا بتبرير ولا بشروط
“أنا آسف لو كنت زعلتك” ليست اعتذارًا، بل تهرّب.
الاعتذار الحقيقي هو أن تقول: “أنا آسف، أخطأت حين قلت كذا، وأعدك أن أكون أفضل”.
- نتقبّل اعتذار الآخرين دون تهكُّم أو إذلال
حين يعتذر لك أحدهم، لا تقل له: “أخيرًا فهمت؟”
بل قل: “شكرًا لشجاعتك، وأنا أقدّرها”.
⸻
❖ الاعتذار لا يُعيد الماضي… لكنه يُعيد الإنسان
لن يُغير الاعتذار ما حدث،
لكنّه يُغيّر الطريقة التي يظل بها في قلوبنا.
فبدلًا من أن يبقى الجرح حيًّا، يتحوّل إلى ندبة لا تؤلم… لأنها شُفيت بالصدق.
⸻
❤️ وفي الختام…
ثقافة الاعتذار ليست رفاهية…
هي ضرورة لبناء علاقات صحية، ومجتمع راقٍ، ونفوس صافية.
إن لم نكن قادرين على أن نمنع الأذى دائمًا،
فلنكن على الأقل شجعانًا بما يكفي لنقول لمن تأذى منّا:
“أنا آسف… ومن قلبي.”