غزة تحت الحصار: حين يصبح الجوع سلاحًا قاتلًا

بقلم / وليد محمد عبد اللطيف

في زمنٍ تُرفع فيه شعارات حقوق الإنسان والعدالة تعيش غزة مأساةً لا يشبهها شيء. أكثر من مليوني إنسان، معظمهم من الأطفال والنساء محاصرون منذ أكثر من 17 عامًا في سجن مفتوح لا نوافذ فيه للأمل. ومع كل حرب، يتسع الجرح. ومع كل صمت دولي، يشتد الحصار. لكن ما حدث خلال السنوات الأخيرة وتحديدًا في حرب 2023 وما تبعها فاق كل حدود التصوّر: الموت جوعًا أصبح واقعًا يوميًا في غزة.
سجن مفتوح… بلا طعام ولا دواء
منذ عام 2007 وقطاع غزة يخضع لحصار بري وبحري وجوي تفرضه إسرائيل مدعومة بصمت إقليمي ودولي. الموانئ مغلقة المطارات مدمّرة والكهرباء لا تزور البيوت إلا لساعات معدودة إن زارتها أصلًا. المياه غير صالحة للشرب والوقود لا يصل إلا عبر شروط معقدة إنسانية وسياسية. أما الدواء فهو حلم للمرضى والمصابين.
والأخطر: الغذاء.
مع تصاعد العدوان واشتداد الحصار لم يعد الجوع مجرد إحساس مؤلم بل أداة قتل بطيئة.
جوع الأطفال… مشهد لا يُغتفر
وثّقت منظمات حقوقية وإنسانية خلال عامي 2023 و2024 عشرات الحالات لأطفال تُوفوا بسبب الجوع وسوء التغذية.
أمّ تُطهو الماء مع التوابل لإيهام أطفالها أن هناك طعامًا.
أب يبحث في النفايات عن كسرة خبز.
وأجساد نحيلة تتهاوى في طوابير الإغاثة… تلك الإغاثة التي كثيرًا ما تُمنع أو تُقصف أو تُؤخّر حتى يفقد وصولها المعنى.
المستشفيات خاوية من المعدات والكوادر والمدارس تحوّلت إلى ملاجئ والمساجد والكنائس تفتح أبوابها لاستقبال من فقدوا كل شيء… إلّا الكرامة.
الضمير العالمي في سبات
رغم فداحة الكارثة يكتفي العالم ببيانات “القلق” ويواصل بعض الإعلام التهوين من حجم الجريمة. لم تُفتح ممرات آمنة، لم تُفرض عقوبات على من يمنع الطعام والدواء ولم تُسجَّل مواقف شجاعة في مؤسسات القرار الدولي وكأن الجوع في غزة شأن داخلي لا يستحق أكثر من دقائق في نشرات الأخبار.
لكن الضمير الحرّ في الشعوب لا يزال حيًّا. مظاهرات، حملات إغاثة ضغوط شعبية في العواصم وأصوات تُطالب برفع الحصار ولو بالكلمة.
غزة لا تموت… بل تُقاتل بالصبر
رغم القصف الجوع والخذلان تواصل غزة الحياة.
المعلمون يُدرّسون على ضوء الشموع الأطباء يعملون بأيديهم في غياب المعدات والفنانون يرسمون وجوه الشهداء على الجدران.
الكرامة لا تزال تعيش هناك… والروح تقاتل.
خاتمة: الموت جوعًا ليس قدَرًا… بل جريمة تُرتكب على مرأى العالم
ما يحدث في غزة اليوم ليس مجرد حصار سياسي، بل انتهاك صارخ لكل القيم الإنسانية.
رفع الحصار ليس مطلبًا سياسيًا، بل ضرورة أخلاقية.
وما لم يتحرك العالم لكسر هذا الصمت، فسيبقى الجوع أداة حرب تُمارس ضد المدنيين بلا رحمة… وبلا محاسبة.
الموت جوعًا خاصة في صفوف الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية ومن نقص الدواء والغذاء وصمة عار على جبين العالم الذي يشهد هذا الموت البشع وهذا القتل العمد بفعل استمرار الحصار الظالم واستمرار حرب الإبادة والتطهير العرقي فلا يتداعى لتنفيذ القوانين الدولية المنصوص عليها في كل المحافل الأممية ويفرض وقفًا لهذه المقتلة ويرفع قيود الحصار لتدخل المساعدات بل نراه يتضامن مع الضحية بصوت خافت لا يكاد يُسمع ولا يتحرك جديًا لإنقاذ الناس في غزة من الموت الذي بات يتهددهم بالفناء…
مات طفلٌ آخر بعدما عجز جسده عن احتمال الجوع مات في حضن والدته التي بكت موته وبكت عجزها عن إطعامه، وبكت ضعفها وهشاشة جسدها المنهك ولعنت الإنسانية التي استحقت اللعنة لأنها تشاهد بصمت وتراقب بصمت، وتتداعى للخطابة والشعارات ببطون متخمة وضمائر لم تهتز لكل مشاهد الموت وصور الخراب. وفي الصورة الواضحة عبر الفضائيات سقطت سيدةٌ مُضرَّجة بجوعها وعطشها أرضًا أمام عين الكاميرا بينما كان المراسل يخرج على الهواء في بث حيّ يصف واقع الحال ومصائر الموت الذي يتهدد حياة الناس ممن بقوا على قيد الحياة.
إن الاحتلال الذي يصرّ على اتباع سياسة التجويع حد الموت بحق الأطفال والشيوخ والنساء لتتحقق الإبادةِ بكل أركانها وأبعادها لا يزال يواصل فرض حصاره المحكم من كل الجهات ويمنع دخول الدواء والغذاء وهو يتفاخر بأنه يرتكب أبشع المجازر ويقتل الناس قصفًا وجوعًا. فما تشهده البشرية اليوم من مذابح جماعية لم تعرف لها مثيلًا في بشاعتها ولا في هذا الصمت المريب الذي يحيط بها فهي غير مسبوقة في التاريخ المعاصر وهي مستمرة ومتواصلة منذ 654 يومًا.
إن الموت الذي يواصل زحفه دون رحمة على الناس في غزة بينما يقف العالم متفرجًا يراقب مشهد الفناء بصمت مريب وكأن الضمائر قد ماتت والإنسانية قد تآكلت في زوايا الخوف والمصالح والحسابات الباردة.
إن استمرار هذا الصمت العالمي ليس مجرد تواطؤ بل مشاركة فعلية في الجريمة وتوقيع مباشر على الإعدام الجماعي والفناء الذي يتهدد أهل عزةوإن لم ينهض الضمير الإنساني الآن فمتى ينهض من سباته؟ ومتى يصحو ويوقف الجرائم والمذابح والإبادة؟