مقالات

أيها الإسكافي: لا تتجاوز حدود النعل


نشأت الديهي

عندما نظر الإسكافي إلى إحدى لوحات الفنان اليوناني أبوليس، ووجد خللاً في رسم نعل داخل إحدى اللوحات، بادر — بجرأة — مُعلِّقًا ومنبّهًا الرسام الكبير.
تقبّل الرسام الملاحظة بتواضعٍ شديد، وقام بتعديل مقاسات النعل داخل اللوحة.
لكن الإسكافي تمادى، واستمر في انتقاد عناصر أخرى في اللوحة، خارج نطاق تخصّصه كإسكافي.
عندها انتفض الرسام أبوليس قائلاً: «أيها الإسكافي، لا تتجاوز حدود النعل.»

تذكّرت هذه القصة وأنا أتابع أولئك الذين يصفقون لبُنَاةِ حوائط الأوهام في إقليمنا البائس، ويرفعون مداميك العبث، وهم يصفقون لأنفسهم في بلاهةٍ نادرة.
تذكّرت قصة الإسكافي والرسام، فما يجري في المنطقة أمام أعيننا الآن هو عملية «فكٍّ وتركيبٍ وملء فراغات»، سيعقبها بالتأكيد عمليات التشطيبات النهائية ورسم الجداريات التي تصنع الصور الذهنية المطلوبة.

ثم تبدأ عمليات التسويق والترويج والتنظير والتأطير لشكل الإقليم، وفقًا لنظرية «الجداريات الخادعة».
لقد كانت أولى عمليات الفك قد حدثت يوم غزت العراقُ الكويتَ، وما تلاها من نتائج بدت — في حينها — للبعض منطقية وغير مخططة.
فقد تم احتلال بغداد، وحُلَّ الجيش العراقي بقرارٍ من الحاكم الأمريكي للعراق آنذاك بول بريمر، وتم إطلاق سراح شياطين الطائفية البغيضة والمحاصصة الكريهة، حتى تم «لبننة» المشهد العراقي، خطوةً هامة نحو «بلقنة» الإقليم برمّته.

ثم جاءت حرب اليمن لتفتح جرحًا إقليميًا ما زال ينزف ألمًا حتى الآن.
وأخيرًا، تم وضع سوريا في غرفة التشريح الجيوسياسي، تحت رعاية أمريكية ـ روسية ـ تركية ـ خليجية مشتركة، وهرب بشار، وجيء بأحد قيادات تنظيم القاعدة ليجلس مكانه على كرسي الحكم.
دخلت سوريا فصلًا جديدًا تمامًا، يرى البعض أنها دخلت إلى المستقبل من بوابات الرعاية التركية، والدعم الخليجي، والتوجهات الأمريكية، والموافقة الروسية.

ويرى البعض الآخر أن سوريا دخلت النفق المظلم من الأبواب ذاتها، وأن النتائج ستكون كارثية على فكرة الدولة ووجودها وبقائها على نفس خطوط الجغرافيا القائمة.
هنا تقف مصر متحفّظة دون تدخل، لكنها أعلنت موقفها العام الداعم لبقاء الدولة ووحدة أراضيها وسيادتها، مع الحفاظ على التوازن بين جميع المكونات السورية.
مصر لم تُغلق الباب ولم تفتحه، لكنها لم تفتح خزينة التفاؤل، وحذّرت من مغبة تقسيم سوريا أو وقوعها — لا قدّر الله — في حربٍ أهلية.

دول الخليج تدعم سوريا لإبعاد إيران عنها، وتركيا تدعم سوريا لإضعاف الأكراد والسيطرة على الشمال الكردي، وأمريكا تدعم سوريا لضرب التحالف السوري الروسي السابق ومحاصرة القواعد الروسية في حميميم وطرطوس.
أما الاتحاد الأوروبي، فيدعم سوريا لتجفيف منابع الهجرة غير الشرعية واللجوء السياسي.

أما إسرائيل، فتدعم النظام السوري الجديد لقطع الطريق على إيران وأذرعها الشيعية في المنطقة، من خلال وجود نظامٍ سُنّيٍّ حليفٍ وكارهٍ لإيران، بالإضافة إلى إعادة انتشار القوات الإسرائيلية في الجولان والسويداء، واللعب بورقة الدروز، ومن ثم تحويل سوريا إلى دولة صديقة.

وعلى الصعيد الفلسطيني، فقد كانت الخطة أكثر فجاجةً ووقاحةً: فصل الضفة عن غزة عبر خلق تنظيماتٍ راديكالية خرجت من رحم جماعات الإسلام السياسي، فتم إضعاف السلطة، وشيطنة حركة فتح، وكان الطريق مفروشًا بالورود أمام خطة التهجير للسكان والتصفية للقضية.
كانت حركة حماس هي الطُّعم الذي أرادت إسرائيل اصطياد أهدافها من خلاله، وهي قصة لعبت فيها الدعاية والبروباغندا الصهيونية الدور الأكبر.

وقفت دول الخليج ومصر والأردن موقفًا رافضًا للتهجير، ومع ازدياد الضغط الأمريكي والأوروبي أعادت دول الخليج حساباتها، وبقيت مصر والأردن في مواجهة المخطط الإسرائيلي.
ومع جنون اليمين الإسرائيلي المدعوم أمريكيًا، أصبحت مصر بمفردها في المواجهة.
كانت خطوط مصر الحمراء مرسومةً — سياسيًا وعسكريًا — ببراعة.
وخاضت مصر معارك دبلوماسية اعتمدت على رصيد الخبرة التاريخي والفهم الدقيق لواقع المنطقة وتعقيداتها.

في النهاية، نجحت مصر — منفردة — في إيقاف خطط التهجير والتصفية، وكانت — وللحق — قطر داعمةً للموقف المصري في فلسطين دون شروط.
كما أن دخول تركيا على الخط لم يكن لأنها الدولة الإقليمية السنية الأقرب، ولكن لما للرئيس التركي من ولايةٍ أخلاقية على بعض فصائل الإسلام السياسي، ومنها حماس وبعض فلول الإخوان.

مصر هنا لم تضع البيض في سلةٍ واحدة، ولم تدّخر جهدًا يمكن أن تبذله، ولم تحجب عن الآخرين القيام بأي دورٍ لمصلحة الحق الفلسطيني.
أما المملكة السعودية وفرنسا، فتحالفتا للدفع في اتجاه حل الدولتين، وهنا ضربت مصر المثل، واتجهت صوب الدعم المطلق للجهود السعودية الفرنسية، وشاركت في جميع الفعاليات المتعلقة بهذا المسار.

على الصعيد الليبي، هناك حكومتان ومجموعة ميليشياتٍ متناحرة، وبرلمانٌ واحد، وجيشٌ وطني لا يسيطر إلا على الشرق والجنوب، بينما بقيت العاصمة في أيدي الميليشيات المدعومة من تركيا.
وقفت مصر مع كل ما يؤدي إلى الحفاظ على وحدة الدولة الليبية وإعادة بناء مؤسساتها، لكن التباين مع الصديق التركي واضحٌ ولا لبس فيه.

وفي السودان، الوضع أكثر خطورة.
هناك تباينٌ بين الموقف المصري الداعم للجيش الوطني ومؤسسات الدولة الشرعية، والموقف الإماراتي الداعم لميليشيا الدعم السريع، وإن كانت الإمارات قد أعلنت أنها — كجزءٍ من الرباعية — تقف على مسافةٍ واحدةٍ من الجميع.
هنا تقف السعودية في نفس مربع الموقف المصري الداعم للجيش السوداني، والمتقاطع مع الموقف الإماراتي.

أما في اليمن، فمصر تقف ضد التدخلات العسكرية واللجوء إلى القوة في حل النزاعات بوجهٍ عام، وفي اليمن بوجهٍ خاص.
وهذا يمثل تباينًا في الموقف المصري مع الموقف الخليجي، الذي بدأ موحّدًا في بداية الحرب، وانتهى بتباينٍ واضح بين الرياض وأبوظبي حتى الآن.

كل هذه المنمنمات السياسية أراها جميعها بمثابة متغيّرات، بيد أن الثابت الوحيد في التاريخ هو الجغرافيا.
لذلك، لا أرى أمامي من ثوابت إلا مصر، وقطعًا واحترامًا للتاريخ، فإن تركيا العثمانية وإيران الفارسية ثوابت جغرافية وتاريخية لا يمكن إغفالها أو محوها من المعادلة.

أما دول الخليج — الإمارات والسعودية وقطر — فتمتلك إمكاناتٍ مالية ضخمة مكّنتها من خلق أدواتٍ سياسيةٍ مهمة ومؤثرة في الإقليم بشكلٍ مباشر، وخارج الإقليم بشكلٍ غير مباشر، لذلك فوجودها في المعادلة ضرورة حتمية، تمشيًا مع الواقعية السياسية في اللحظة الراهنة.

أما إسرائيل، فهي في بؤرة التوتر الإقليمي الذي يضع الإقليم على فوهة بركان.
لذلك، فمن يراهن على دور إسرائيل في تشكيل شرق أوسط جديد، فهو كمن يضع عقله في ثلاجة حفظ الموتى.
المؤمنون بدور إسرائيل المهيمن على المنطقة، كمن أراد أن يتوب إلى الله، فذهب إلى الشيطان ليستشيره في الأمر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى