العربية لسان عربيّ عتيق

مريم عرجون
باسم اللسان الذي سبق القلم، وبالحرف الذي نهض بالإنسان من الإيماء إلى الإبانة، نقول هذا القول ذبًّا عن العربية، لا على أنها مجرّد أداة نطق، ولكنها روح تسري، وذاكرة تُورَث، وعهدٌ يشدّ الماضي بالآتـي.
في جوف العربية تسرح المعاني كما تسرح النجائب في الفلوات، فإذا الكلمات يقِظات بعد خفاء، وإذا الحروف كأنها بروقٌ خاطفة، تُصيب الفؤاد قبل الحدق، وتستقر في الصدر قبل الصحيفة. هي لسانٌ إذا نُطق ازدان، وإذا كُتب استبان، وإذا حُمِل بحقٍّ صار بهاءً لا يَخبو، وبيانًا لا يَمَلّ.
العربية لسانٌ قديم العهد، راسخ الجذر، شهد أوّل وعي الإنسان بالاسم والمسمّى، يوم كان الاسم مفتاح المعرفة، وكانت الكلمة سبيل الفهم. ومنذ ذلك الأمد السحيق، وهي تنشأ وتشبّ، وتطاول الدهور، حتى غدت وعاء قوم، وسجلّ أيام، وحافظة خبرٍ لا ينقطع.
هي من ألسنة الساميين الأُوَل، عريقة المحتد، متصلة بأرضها وأهلها، ثم ما لبثت أن جاوزت مضاربها، فخالطت الألسنة، وأثّرت وتأثّرت، حتى صارت لسان حكمٍ وعلم، ولسان شريعةٍ وأدب. بها قيل الرأي، وصيغ النظر، ووُضعت أسس الطب والحساب، وسارت بها أخبار الأمم من مشرق الأرض إلى مغربها.
ولم تكن العربية في سالف عهدها لسان انغلاقٍ ولا ضيق، بل كانت صدرًا رحبًا، تضمّ الحكمة حيث وُجدت، وتكسوها من نسجها، حتى غدت جسرًا تعبر عليه المعارف، ولسانًا تُخاطَب به الحضارة.
وإن الذود عن العربية ليس بكاءً على رسمٍ دارس، ولا تعلّقًا بعاطفةٍ مجرّدة، ولكنه رأيٌ في العقل، وموقفٌ في المصير. فاللغة ليست وعاءً أجوف يُسكب فيه الفكر، بل هي التي تُنشئه، وتحدّ له مسالكه، وبها تُقاس منازل الأمم في الوعي والقدرة والبقاء.
وإن كانت العربية قد جمعت في دهرها الأول شتات العلم والحكمة، فإن حقّها اليوم ألا تُجعل حِرزًا محفوظًا فحسب، بل لسانًا عاملًا، ينهض بحمل الأسئلة، ويصوغ المعاني المستجدّة، ويشارك في إنشاء المعرفة، لا أن يُكتفى له بصورةٍ بلا روح.
فالنهوض بالعربية فريضة ثقافية، لا تتمّ إلا بإحكام تعليمها، وإجادة القول والبحث بها، وإخراجها من بين إفراطٍ يعطّلها باسم القداسة، وتفريطٍ يبدّدها باسم الحداثة. فهي لا تُصان بالوجد وحده، ولا تُحيا بالقطيعة، ولكن تُحفظ بعقلٍ مدبّر، وذوقٍ سليم، وعزمٍ لا يلين.
وعلى هذا، تبقى العربية طريقًا لا يُسدّ، وعهدًا لا يُطوى؛ لسانًا متى حُمل بحقّه، كان أداة فَهْمٍ، وسداد رأي، ودليلًا على أن الأمة التي تملك لسانها، تملك أمرها، ومن ضيّع لسانه ضيّع مصيره.







