ألقى الرئيس عبد الفتاح السيسي، مساء اليوم الثلاثاء، كلمة مصر أمام خلال الدورة 76 للجمعية العامة للأمم المتحدة.
وجاء في نص الكلمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد عبد الله شاهد، رئيس الدورة السادسة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة،
أود في البداية، أن أعرب عن تهنئتي لكم ولبلدكم الصديق على توليكم رئاسة هذه الدورة للجمعية العامة للأمم المتحدة راجيًا لكم النجاح والتوفيق في أعمالها ويطيب لي أن أشيد بالدور البناء، الذي يقوم به السكرتير العام للأمم المتحدة عبر سعيه الدؤوب لتنفيذ مبادئ ميثاقها الذي ظل دستورًا للعلاقات الدولية، ومرجعًا لها لما يتجاوز خمسة وسبعين عامًا ويبقى أملًا في تكريس نظام عالمي قائم على القانون، والعمل على إرساء السلام.
السيدات والسادة،
إن استمرار الجائحة العالمية منذ قرابة العامين أثبتت مجددًا أن البشرية مثلما تتشارك في الأخوة الإنسانية فإنها عرضة كذلك للتشارك فيما تواجهه من تحديات مهما تفاوتت مستويات تقدمها.
وهنا تجدر الإشارة، إلى ما يحمله موضوع دورة الجمعية العامة لهذا العام من أهمية إذ لخص ما نحن بحاجة إليه في عالم اليوم من صمود في مواجهة وباء “كوفيد-۱۹” وأمل في التعافي منه الأمر الذي يلقى الضوء على أهمية تذليل الصعوبات أمام توفير اللقاحات لمختلف دول وشعوب العالم وضمان توافرها بصورة عادلة ومتساوية، بل ويكسبها أولوية قصوى.
ومن هذا المنطلق، اسمحوا لي أن أستعرض من خلال هذا المحفل المهم رؤية مصر – كعضو مؤسس للأمم المتحدة ولعدد من المنظمات الإقليمية – للواقع الدولي وإسهاماتها في مواجهة التحديات التي يشهدها عالمنا اليوم.
السيد الرئيس،
تقدر الدولة المصرية خطورة التباين في مسارات التعافي الاقتصادي بين الدول وفقًا لقدرتها على توفير الأعداد اللازمة من اللقاحات حيث تستأثر الدول المتقدمة بالنصيب الأكبر من إنتاج العالم منها وتشير مصر على وجه الخصوص، إلى ضرورة الاستجابة السريعة والفعالة لاحتياجات القارة الأفريقية حيث باتت قارتنا الأكثر تضررًا من تداعيات الجائحة في الوقت الذي تواجه شعوبها تحديات أخرى لا تقل خطورة عن فيروس “كورونا” ولذا حرصت مصر على توطين صناعة اللقاحات ليس فقط لتلبية احتياجات مواطنيها ولكن أيضًا للتصدير إلى القارة الأفريقية.
الحضور الكريم،
إن الظروف الراهنة إنما فاقمت واقعًا تكرس على مدى عقود وهو القصور في التعاون الإقليمي والدولي وعكست أهمية مراعاة توسيع نطاق الدعم الدولي للعالم النامي ليشمل مجموعة الدول متوسطة الدخل فالثقل السكاني لهذه المجموعة من الدول يمنحها أهمية محورية كونهــا تضم غالبية سكان العالـم لذا فهي مركز أساسي لاستهلاك السلع والخدمات على المستوى الدولي ومحرك رئيسي للنمو الاقتصادي العالمي.
وعلى ضوء التحرك الدولي لإصدار ما قيمته نحو “٦٥٠” مليار دولار من حقوق السحب الخاصة في إطار صندوق النقد الدولي ترى مصر أهمية بالغة في استطلاع السبل الملائمة لتوظيف هذه الموارد لخدمة احتياجات العالم النامي بما يشمل الدول منخفضة ومتوسطة الدخل.
وفى هذا الإطار، تدعو مصر إلى تخفيف أعباء الديون عن الدول النامية وخاصة الأفريقية والدول متوسطة الدخل وتيسير شروط الاقتراض من المؤسسات الدولية والإقليمية من خلال إمدادها بأدوات للتمويل الميسر وتشجيع الاستثمارات وضمان استمرار تدفقها إلى هذه الدول لما تمثله هذه الإجراءات من عامل حيوي في دعم الجهود الوطنية للتنمية وفقًا للأجندات التنموية الإقليمية والدولية ذات الصلة.
السيد الرئيس،
إن اقتناعنا راسخ، بأن التنمية تضم إطارًا شاملًا، لمجموعة واسعة من الحقوق اللازمة للنهوض بالفرد وتوفير سبل الحياة الكريمة للمجتمعات.
ومن هذا المنطلق، طبقت مصر سياسات الإصلاح الاقتصادي التي مكنتنا من تنفيذ برامج اجتماعية طموحة، لصالح الفئات الأولى بالرعاية ونجحت في تحقيق أهداف التنمية المسـتدامة في مختلف محافظــات مصـــر.
كما قامت بتقليص التفاوت التنموي بين الريف والحضر وذلك انطلاقًا من إيماننا، بأن وصول الدولة المصرية بالخدمات الأساسية إلى كافة ربوع البلاد من شأنه أن يعزز المشاركة السياسية والمجتمعية كونه يخلق مناخًا صحيًا، يزدهر في إطاره الفكر الحر، وتنشط فيه حركة الإبداع فتدفع بعجلة التقدم إلى الأمام.
السيد الرئيس،
تعي مصر جيدًا الخطر الذي يمثله التدهور البيئي على كافة مناحي الحياة، وعلى مستقبل الأجيال القادمة، بل وعلى وجودها خاصة تغير المناخ، الذي باتت آثاره السلبية واضحة للعيان فلقد شهدنا على مدار الفترة الماضية العديد من الظواهر المناخية القاسية في كثير من دول العالم من فيضانات وأمطار غزيرة إلى الارتفاعات غير المسبوقة في درجات الحرارة وحرائق الغابات صاحبتها تداعيات إنسانية واقتصادية واجتماعية باتت تمثل أعباء إضافية على كاهل الدول والحكومات، لتحقيق الرفاهة لشعوبها.
ومن منطلق مسئولياتنا الأخلاقية المشتركة تجاه الأجيال القادمة مع أهداف رؤيتنا الوطنية والتزاماتنا الدولية تبذل مصر قصارى جهدها لتعزيز التنسيق إزاء قضايا المناخ تفاديًا للوصول إلى لحظة قد تصعب فيها العودة إلى الأوضاع المناخية الطبيعية بعدما يكون تغير المناخ قد بلغ مداه، وبات ظاهرة عصية على المعالجة.
وعلى ضوء الدور المصري النشط في مفاوضات تغير المناخ فإننا نتطلع إلى استضافة الدورة السابعة والعشرين لمؤتمر أطراف اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ عام ٢٠٢٢.
السيد الرئيس،
يظل الإرهاب كذلك، من أكبر التحديات التي تواجه الأسرة الإنسانية في عصرنا الحالي حيث تنتهك هذه الظاهرة الحقوق الأساسية للمواطنين وفى مقدمتها الحق في الحياة وتعيق جهود الحكومات نحو بلوغ الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لشعوبها؛ لذلك تشدد مصر، على أنه لا يمكن القضاء على الإرهاب إلا من خلال مواجهة الفكر التكفيري والمتطرف، المتسبب في تلك الظاهرة البغيـضة وذلك في إطار مقـاربة شاملة لا تقتصر فقط على المواجهة الأمنية للإرهابيين وتنظيماتهم بل تشمل أيضًا أبعادًا اقتصادية واجتماعية وتنموية وفكرية تجفف منابع الإرهاب، وتعالج الظروف والعوامل التي تدفع البعض إلى هذا الطريق الإجرامي وهي مقاربة كما تتطلب جهدًا وطنيًا فإنها تستلزم تعاونًا دوليًا.
ومن هنا، أود تأكيد أهمية احترام كافة الدول، لالتزاماتها بموجب القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة.
ونشدد في هذا الصدد، على أهمية محاسبة الدول التي ترعى الإرهاب وتحتضن عناصره بمن في ذلك المقاتلون الإرهابيون الأجانب وتوفر لهم الملاذ والدعم أو تسهل انتقالهم عبر أراضيها بما يهدد السلم والأمن الدوليين.
السيدات والسادة،
إن مصر تحرص على تعزيز حقوق الإنسان لمواطنيها وتبذل لتحقيق هذه الغاية جهودًا حثيثة في إطار من احترام مبادئ المواطنة وسيادة القانون وتدرك الدولة المصرية تمامًا أن الإنسان المصري يأتي في القلب من منظومة التنمية الشاملة، التي تحرص على تنفيذها إعلاءً لكرامته وضمانًا لحقوقه وحرياته.
ولقد عكست منظومة حقوق الإنسان مؤخرًا في مصر، تطورًا جليًا اتصالًا بما يتضمنه الدستور المصري وتعديلاته من مواد تضمن الحقوق والحريات العامة وما لذلك من انعكاسات على تحديث التشريعات ذات الصلة ولعل “الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان” التي أطلقتها مصر منذ أيام بناءً على تشاور مجتمعي وبمساهمة المجتمع المدني هي خير دليل على المقترب الشامل والبناء الذي تنتهجه بلادي إزاء موضوعات وقضايا حقوق الإنسان.
السيد الرئيس،
لقد جاء انتخاب مصر لرئاسة الدورة الحالية الخامسة عشرة، للجنة الأمم المتحدة لبناء السلام ليكلل مسيرة متواصلة من الإسهام المصري الفاعل لتعزيز وتفعيل هيكل الأمم المتحدة لبناء السلام، منذ إنشائـه عام ٢٠٠٥ كما يجسد ثقة المجتمع الدولي، في قدرة مصر على قيادة الجهود الأممية في هذا الشأن على ضوء إحرازها المرتبة السابعة، بين الدول المساهمة بقوات عسكرية وشرطية – رجالًا ونساءً – في عمليات حفظ السلام الأممية.
السيد الرئيس،
لقد أكدت مصر مرارًا أنه لا سبيل لاستقرار الشرق الأوسط، دون التوصل إلى حل عادل ودائم وشامل للقضية الفلسطينية التي كانت ومازالت القضية المركزية للأمة العربية، وذلك عبر التفاوض استنادًا إلى مقررات الشرعية الدولية لإقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو ١٩٦٧ وعاصــــــمتها “القــــدس الشــــــرقية”.
من هذا المنطلق، تؤكد مصر أهمية تثبيت وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في ۲۰ مايو ۲۰۲۱ كما تدعو مصر المجتمع الدولي لاتخاذ الإجراءات اللازمة لتحسين الأوضاع المعيشية للشعب الفلسطيني، وإيصال المساعدات الإنسانية إليه وحث الأطراف المانحة على دعم وكالة “الأونروا” تمهيدًا للقيام بعملية إعادة الإعمار في قطاع “غزة” أخذًا في الاعتبار ما أعلنته مصر من تخصيص “٥٠٠” مليون دولار لإعادة الإعمار.
إن منطقة الشرق الأوسط، كما تتسم بموقع استراتيجي فريد فإنها تحتل أيضًا موقعًا متقدمًا على قائمة مناطق العالم الأكثر اضطرابًا مما يضيف إلى التحديات العالمية المشتركة التي تواجهها دول المنطقة تحديات أخرى ذات خصوصية بدولها إذ بات مفهوم الدولة الوطنية القوية المتماسكة مهددًا بعوامل اضطراب متعددة يكمن جوهرها في الانقسام والتشرذم بأنواعه المختلفة سواءً كان طائفيًا أو سياسيًا أو عرقيًا مما يجعل دولًا غنية بمواردها الطبيعية وتاريخها وحضارتها العــــريقـة، كـ”العراق” الشــقيق أو بثقافتها وتنوعها الديني والعرقي، كـ”لبنان” و”سوريا” أو بمواردها وثرواتها وموقعها المتميز، کـ”ليبيا” أو بموقعها الاستراتيجي، كـ”اليمن” تعاني كل هذا الكم من التحديات الضخمة وهو ما يؤكد أنه لا غنى عن إعلاء مفهوم الدولة الوطنية الجامع الذي لا يفرق بين أبناء الوطن الواحد ويحول دون التدخل في الشئون العربية.
السيد الرئيس.. السيدات والسادة،
إن مصر ترتبط ارتباطًا وثيقًا بواقعها الأفريقي الذي تعتز به كثيرًا والذي لا يرتبط فقط بموقعها الجغرافي، ولكنه يتصل عضويًا بوجودها ويهمني في هذا المقام إيضاح أن تحقيق التعاون بين دول القارة لن يتأتى من خلال تحديد طرف واحد لمتطلبات طرف آخر وإنما يتعين أن تكون تلك العملية متبادلة فمصر التي تعترف بحقوق أشقائها التنموية تعد من أكثر الدول جفافًا ويظـل شعبها تحت حد الفقر المائي، ويشكل نهر النيل شريان وجودها الوحيد عبر التاريخ وهو ما يفسر القلق العارم، الذي يعتري المواطن المصري إزاء سد النهضة الإثيوبي.
ولعلكم تعلمون جميعًا، ما آلت إليه المفاوضات الدائرة منذ عقد من الزمن بين مصر وإثيوبيا والسودان جراء تعنت معلوم، ورفض غير مبرر، للتعاطي بإيجابية مع العملية التفاوضية في مراحلها المتعاقبة واختيار للمنهج الأحادي وسياسة فرض الأمر الواقع ما بات ينذر بتهديد واسع لأمن واستقرار المنطقة بأكملها.
وتداركًا لعدم تطور الأمر إلى تهديد للسلم والأمن الدوليين لجأت مصر لمجلس الأمن للاضطلاع بمسئولياته في هذا الملف ودعم وتعزيز جهود الوساطة الأفريقية عن طريق دور فاعل للمراقبين من الأمم المتحدة والدول الصديقة ولا تزال مصر تتمسك بالتوصل – في أسرع وقت ممكن – لاتفاق شامل متوازن وملزم قانونًا حول ملء وتشـــغيل ســـد النهضة الإثيوبي حفاظًا على وجود “١٥٠” مليون مواطن مصري وسوداني، وتلافيًا لإلحاق أضرار جسيمة بمقدرات شعبي البلدين مستندين في ذلك، ليس فقط إلى قيم الإنصاف والمنطق ولكن أيضًا إلى أرضية قانونية دولية صلبة رسخت لمبدأ الاستخدام العادل والمنصف، للموارد المائية المشتركة في أحواض الأنهار الدولية.
السيد رئيس الجمعية العامة،
الحضور الكريم،
قبل أن أختتم حديثي إليكم، أود أن أشير بشكل خاص إلى ما يمثله العمل متعدد الأطراف من أهمية بالغة تتضاعف مع مرور الزمن نظرًا لزيادة التحديات وتنامي المخاطر، ونشوء مصاعب مستجدة على عالمنا فيظل العمل متعدد الأطراف وسيلة للنجاة من احتدام المواجهات وتصاعد الخلافات.
إن ما يشهده عالمنا اليوم من تحديات متتالية يحتم علينا أن تكون لنا وقفة مراجعة تهدف إلى تسخير الموارد اللازمة لمواجهتها كأولوية متقدمة حفاظًا على الإنســـانية بأسـرها هذا نداء توجهه مصر إلى أشقائها في الإنسانية دعونا نتكاتف لننقذ أنفسنا قبل فوات الأوان، معتمدين في تحقيق هدفنا على قوة المنطق لا على منطق القوة.
شكرًا لكم على حسن استماعكم، وأرجو لنا جميعًا دورة موفقة وناجحة