إنَّ استعمال لطيف الخطاب، ورقيق العبارات يؤلِّف القلوب، ويستميلها إلى الحقِّ، ويدفع المستمعين إلى الوعي، والحفظ، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يمهِّد لكلامه وتوجيهه بعبارةٍ لطيفةٍ رقيقةٍ، وبخاصَّةٍ إذا كان بصدد تعليمهم ما قد يُسْتَحيا من ذكره، كما فعل عند تعليمهم آداب الجلوس لقضاء الحاجة؛ إذ قدَّم لذلك بأنه مثل الوالد للمؤمنين، يُعلِّمهم؛ شفقةً بهم، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: “إنَّما أنا لكم بمنزلة الوالد أُعَلِّمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط؛ فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، ولا يَسْتَطِبْ بيمينه”.
لقد راعى المعلِّم الأوَّل صلى الله عليه وسلم جملةً من المبادئ التَّربويَّة الكريمة؛ كانت غايةً في السُّموِّ الخُلُقيِّ، والكمال العقليِّ، وذلك في تعليقه على ما صدر من بعض الصَّحابة، جعلت التوجيه يستقرُّ في قلوبهم، وبقي ماثلاً أمام بصائرهم؛ لما ارتبط به من معـانٍ تربويـةٍ كريمةٍ، وهذه بعض المبادئ الرَّفيعة الَّتي استعملها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:
1 – تشجيع المحسن، والثناء عليه:
ليزداد نشاطاً وإقبالاً على العلم، والعمل؛ مثلما فعل مع أبي موسى الأشعريِّ -رضي الله عنه- حين أثنى على قراءته، وحسن صوته بالقرآن الكريم. فعن أبي موسى -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: “لو رَأَيْتَني وأنا أستمع لقراءتك البارحة! لقد أُوتيتَ مِزْماراً من مَزَاميرِ آل داود”.
2 – الإشفاق على المخطئ، وعدم تعنيفه:
كان -صلوات الله وسلامه عليه- يقدِّر ظروف النَّاس، ويراعي أحوالهم، ويعذرهم بجهلهم، ويتلطَّف في تصحيح أخطائهم، ويترفَّق في تعليمهم الصَّواب، ولا شكَّ أنَّ ذلك يملأ قلب المنصوح حبّاً للرِّسالة، وصاحبها، وحرصاً على حفظ الواقعة، والتَّوجيه، وتبليغهما، كما يجعل قلوب الحاضرين المعجبة بهذا التَّصرُّف، والتَّوجيه الرَّقيق مهيَّأةً لحفظ الواقعة بملابساتها كافَّةً؛ ومن ذلك ما رواه معاوية بن الحكم السُّلميُّ -رضي الله عنـه- قال: “بَـيْـنَـا أنا أصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ عَطَس رجلٌ من القوم، فقلت: يرحمُك الله! فرماني القومُ بأبصارهم، فقلتُ: واثُكْلَ أُمِّيَاهْ! ما شأنُكم تنظرون إليَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلـمَّا رأيتهم يُصَمِّتُونَني، لكنِّي سكتُّ، فلما صلَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبأبي هو وأمِّي! ما رأيتُ معلِّماً قبلـه، ولا بعده أحسنَ تعليمـاً منه، فوالله! ما كَهَرَنـي، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: “إن هذه الصَّلاة لا يَصْلُح فيها شيءٌ من كلام النَّاس؛ إنَّما هو التَّسبيح، والتَّكبير، وقراءة القرآن”.
فانظر -رحمك الله- إلى هـذا الرِّفق البالغ فـي التَّعليم! وانظر أثـر هذا الرِّفـق في نفس معاويـة بن الحكم السُّلَمي -رضي الله عنه-، وتأثُّره بحسن تعليمه -صلى الله عليه وسلم-.
3 – الغضب، والتَّعنيف؛ متى كان لذلك دواعٍ مهمَّة:
وذلك كأن يحدث خطأٌ شرعيٌّ من أشخاصٍ لهم حيثيَّةٌ خاصَّةٌ، أو تَجَاوَزَ الخطأُ حدود الفَرديَّة، والجزئيَّة، وأخذ يمثِّل بداية فتنةٍ، أو انحرافٍ عن المنهج؛ على أنَّ هذا الغضب يكون غضباً توجيهيّاً، من غير إسفافٍ، ولا إسرافٍ؛ بل على قدر الحاجة؛ ومن ذلك غضبه -صلى الله عليه وسلم- حين أتاه عمر؛ ومعه نسخةٌ من التَّوراة؛ ليقرآه عليه -صلى الله عليه وسلم-، فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنَّ عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنسخةٍ من التَّوراة، فقال: يا رسولَ الله! هذه نسخةٌ من التَّوراة. فسكت، فجعل يقرأ ووجهُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتغيَّر، فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: ثكلتك الثَّواكلُ! ما ترى بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فنظر عمر إلى وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: أعوذ بالله من غضب الله، وغضب رسوله، رضينا بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمَّدٍ نبيّاً. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “والذي نفس محمَّدٍ بيده! لو بدا لكم موسى، فاتبعتموه، وتركتموني؛ لضَلَلْتُم عن سواء السَّبيل، ولو كان حيّاً، وأدرك نبوَّتي؛ لاتَّبعني”.
ومن ذلك غضبه -صلى الله عليه وسلم- من تطويل بعض أصحابه الصَّلاة وهم أئمَّةٌ، بعد أن كان -صلى الله عليه وسلم- قد نهى عن ذلك؛ لما فيه من تعسيرٍ، ومشقَّةٍ، ولما يؤدِّي إليه من فتنةٍ لبعض الضُّعفاء، والمعذورين، وذوي الأشغال، فعن أبي مسعودٍ الأنصاريِّ -رضي الله عنه-، قال: قال رجلٌ: يا رسولَ الله! لا أكاد أُدركُ الصَّلاةَ ممَّا يُطوّلُ بنا فلانٌ. فما رأيت النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- في موعظةٍ أشدَّ غضباً من يومئذٍ، فقال: “أيُّها النَّاسُ! إنَّكم مُنَفِّرون، فمن صلَّى بالنَّاس فلْيُخفِّف؛ فإنَّ فيهمُ المريض، والضَّعيفَ، وذا الحاجة”.
ومن ذلك غضبه -صلى الله عليه وسلم- حين يخالف الصَّحابة أمرَه، ويُصرُّون على المغالاة في الدِّين، والتَّشديد على أنفسهم، ظناً منهم أنَّ ذلك أفضلُ ممَّا أُمروا به، وأقرب إلى الله، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أمرهم؛ أمرهم من الأعمال بما يُطِيقون، قالوا: إنَّا لسنا كهيئتك يا رسولَ الله! إنَّ الله قد غفر لك ما تقدَّم من ذنبك، وما تأخَّر، فيغضبُ، حتَّى يُعْرفَ في وجهه الغضبُ، ثمَّ يقول: “إنَّ أتقاكُم وأعلمُكم بالله أنا”.
ولم يكن غضب النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في تلك المواقف إلا عملاً توجيهيّاً، وتعليميّاً؛ تحريضـاً للصَّحابـة على التَّيقُّظ، وتحذيراً لهم من الوقوع في هذه الأخطاء، فالواعظ “من شأنه أن يكون في صورة الغضبان؛ لأنَّ مقامه يقتضي تكلُّف الانزعاج؛ لأنَّه في صورة المُنْذِر، وكذا المعلِّم إذا أنكر على مَنْ يتعلَّم منه سوءَ فهمٍ ونحوه؛ لأنَّه قد يكون أدعى للقبول منه، وليس ذلك لازماً في حقِّ كلِّ أحدٍ؛ بل يختلف باختلاف أحوال المتعلِّمين”.
4- انتهاز بعض الوقائع لبيان وتعليم معانٍ مناسبة:
كان -صلى الله عليه وسلم- تحدث أمامه أحداثٌ معيَّنةٌ، فينتهز مشابهة ما يرى لمعنى معينٍ يريد تعليمه للصَّحابة، ومشاكلته لتوجيهٍ مناسبٍ يريد بثَّه لأصحابه، وعندئذٍ يكون هذا المعنى، وذلك التَّوجيه أوضح ما يكون في نفوسهم رضي الله عنهم؛ ومن ذلك ما رواه عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- قال: قَدِمَ على النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- سَبْيٌ، فإذا امرأةٌ من السَّبي تَحْلُبُ ثَدْيَها تسقي، إذا وجدت صبيّاً في السَّبي؛ أخذته فألصقته ببطنها، وأرضعته، فقال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: “أَتُـرَوْن هذه طارحةً ولدها في النَّار؟”، قلنا: لا؛ وهي تقدر على ألا تَطرَحَهُ، فقال: “للهُ أرحمُ بعباده من هذه بولدها!”.
“فانتهز صلى الله عليه وسلم المناسبة القائمة بين يديه مع أصحابه، والمشهود فيها حنان الأمِّ الفاقدة رضيعها؛ إذ وجدته، وضرب بها المشاكلةَ والمشابهةَ برحمة الله تعالى؛ ليُعرِّف النَّاسَ رحمةَ ربِّ النَّاس بعباده”.