مقالات

برقيات … جيهان عبد الرحمن تكتب ..من يكتب التاريخ… ومن يملكه؟

التاريخ، في جوهره، ليس ما حدث فقط، بل ما كُتب عمّا حدث. وبين الواقع والنص، مسافة شاسعة تملؤها الأهواء، والسلطة، والذاكرة المنتقاة.

حين نتابع مسلسل «الكهف والوهم والحب» (1989)، المعروض حاليًا على «ماسبيرو زمان»، نظن للوهلة الأولى أننا أمام عمل يستعيد فترة ما قبل 1952، زمن الاحتلال الإنجليزي، وفساد الطبقة الأرستقراطية، وكفاح الطلاب. لكن العمل لا يكتفي بسرد المناخ العام، بل يذهب إلى إعادة تشكيل الوعي عبر رسم شخصياته، وعلى رأسها الملك فاروق.

يظهر الملك كائنًا غارقًا في الملذات، لاهثًا خلف النساء، عاجزًا عن الفعل السياسي، أقرب إلى كاريكاتير ملكي منه إلى حاكم في لحظة تاريخية معقدة. لا نرى شابًا تولى العرش في الثامنة عشرة، وسط احتلال أجنبي، وصراع أحزاب، وضغوط قصر، وتدخل بريطاني موثق في أدق تفاصيل الحكم. نرى فقط “الملك الأبله”، لأن هذا الوصف يخدم سردية جاهزة.

في المقابل، حين قدمت لميس جابر ثلاثية «الملك فاروق»، التي تحولت إلى مسلسل عام 2007، حاول العمل تفكيك الصورة الأحادية، لا تبرئة الملك ولا تقديسه، بل وضعه داخل سياقه: شاب قليل الخبرة، محاط بحاشية فاسدة، ومكبّل باتفاقيات دولية، أبرزها معاهدة 1936، التي حدّت من السيادة المصرية فعليًا. هنا انقسم المتلقون: فريق رأى العمل إنصافًا متأخرًا، وفريق اتهمه بالحنين الملكي والدعاية السياسية.

وهكذا يتأكد السؤال:
هل الخلاف حول التاريخ، أم حول من يملك حق روايته؟

الإشكال أعمق من الملك فاروق. فالتاريخ المصري الحديث شهد، على مدى عقود، إعادة صياغة رموزه وفق المزاج السياسي السائد. سعد زغلول، الذي وثّقت خطبه ومذكراته باعتباره قائد حركة شعبية غير مسبوقة، جرى اختزاله أحيانًا في صورة سكير مقامر. مصطفى كامل، أحد أوائل منظّري الوطنية المصرية، شُكك في أقواله ونواياه. الثورة العرابية، التي اعترفت بها وثائق بريطانية كحركة تهدد النفوذ الإمبراطوري، وُصفت بأنها «هوجة».

المفارقة أن كثيرًا من هذه الأحكام لم تصدر عن مؤرخين متخصصين، بل عن دراما، أو مقالات رأي، أو أعمال فنية تمتلك تأثيرًا أقوى من الكتب الأكاديمية، لأنها تخاطب الوجدان لا العقل.

الفيلسوف الفرنسي بول ريكور يقول إن «الذاكرة حين تُروى، تتحول إلى سلطة». والدراما، بما تملكه من صورة وموسيقى وتعاطف، صارت اليوم أقوى أدوات كتابة الذاكرة الجمعية، حتى لو ادّعت أنها لا تفعل سوى “الحكي”.

من هنا تتكرر الإشكالية مع فيلم «الست»، الذي ركّز على الجوانب السلبية في شخصية أم كلثوم. ليست المشكلة في النقد، فالنقد حق، بل في انتقاء زاوية واحدة، وكأن الرموز لا تُرى إلا من خلال شقوقها، لا من خلال أثرها الحضاري والإنساني.

فمن يكتب التاريخ إذن؟
المؤرخ؟
السلطة؟
المنتصر؟
أم كاتب السيناريو؟

وإذا كان التاريخ – كما قال نيتشه – «تفسيرًا لا حقيقة مطلقة»، فمن أين يستقي الشباب وعيهم، في ظل تعليم متراجع، وقراءة محدودة، واعتماد متزايد على الصورة المختزلة؟

الأخطر أن معاول الشك لا تتوقف عند الماضي، بل تمتد إلى الحاضر، فتفكك الرموز، وتفرغ الذاكرة، وتترك الأجيال بلا جذور. وحين يُهدم الماضي بلا فهم، لا يُبنى المستقبل، بل يُترك معلقًا في الفراغ.

فالسؤال لم يعد:
هل التاريخ مزيف؟
بل: هل نملك أدوات قراءته؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى