مقالات

برقيات.. جيهان عبد الرحمن تكتب…فرصة عادلة للحياة

في الخامس عشر من نوفمبر، ومع بيان منظمة الصحة العالمية بمناسبة يوم الخداج العالمي، توقفت أمام كلمة عربية قديمة تحمل وجعًا مبكرًا: الخداج. ليست مجرد مصطلح طبي، بل وصف لطفل جاء إلى الدنيا قبل أوانه، هشًّا، كأنه يسأل الحياة في صمت: هل لي مكان بينكم؟
الخداج هو ذاته ما يسميه الطب الحديث المبتسر، طفل لم يكتمل نموه بعد، لكن روحه اكتملت بما يكفي ليقاتل من أجل البقاء. وبين الكلمتين مسافة زمن، لا تلغي حقيقة واحدة: أن البداية غير العادلة تترك أثرها طويلًا في الجسد والذاكرة.
كل طفل يستحق فرصة متساوية في الحياة منذ اللحظة الأولى، لكن هذه الفرصة لا توزَّع بعدل على خريطة العالم. فما تزال الولادة المبكرة سببًا رئيسيًا لوفيات الأطفال، خصوصًا في مناطق الفقر والحروب. ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، تمثل مضاعفاتها أكثر من 22.8% من وفيات الأطفال دون الخامسة في إقليم شرق المتوسط.
في غزة، يولد آلاف الأطفال كل شهر وسط الحصار، يعاني واحد من كل ثلاثة منهم نقص الوزن أو يحتاج إلى رعاية مركزة. في السودان، حيث النزوح والجوع، تضاعفت مخاطر وفاة الأمهات أثناء الولادة عشر مرات. وفي اليمن، يُولد كثير من الأطفال وهم بلا صوت، إذ تزيد حالات ولادة الموتى بنسبة 50% عن المتوسط العالمي.
نساء يحملن تحت القصف، ويضعن مواليدهن في مستشفيات بلا كهرباء أو على ضوء الهواتف المحمولة. لا ماء نظيف، ولا غذاء كافٍ، ولا أمان. وحين تُقصف المستشفيات أو تنقطع سلاسل الإمداد، يصبح الرحم ساحة حرب، ويكون الرضع أول الضحايا. إنها حروب لا تقتل فقط، بل تحرم الأطفال من حقهم في بداية آمنة، وتكسر الأمهات في أكثر لحظاتهن هشاشة.
وتشير بيانات منظمة الصحة العالمية إلى انخفاض يصل إلى 70% في خدمات الرعاية السابقة للولادة وأثناءها وما بعدها في مناطق النزاع. أرقام تبدو جافة، لكنها تخفي خلفها وجوهًا صغيرة، وقلوبًا توقفت قبل أن تعرف معنى الدفء.
وهنا، لا يعود الخداج مسألة طبية فحسب، بل اختبارًا أخلاقيًا لإنسانيتنا. فكيف نقيس تقدم العالم، بينما يُترك أضعف أفراده لمصيرهم؟ وكيف نتحدث عن حقوق الإنسان، وهناك أطفال لا يُمنحون حتى حق البداية؟
في مصر، لا تزال لدينا فرصة حقيقية. أطفالنا هم ثروتنا الأهم، ومستقبل هذا الوطن يُكتب الآن في حضّانات المستشفيات وعيون الأمهات. ومع الضغوط الاقتصادية المتزايدة، تصبح التوعية الصحية للأم والطفل ضرورة لا رفاهية، خاصة في المناطق الأكثر احتياجًا.
وتوضح الدكتورة سهام المريض، الأستاذ المساعد بمعهد الصحة العالمية والبيئة البشرية بالجامعة الأمريكية، أن مصر حققت تقدمًا ملحوظًا في برامج التطعيم خلال العامين الأولين من عمر الطفل، وتجاوزت أمراضًا مثل التقزم، لكنها تؤكد أن التحديات ما زالت قائمة، وأن الوقاية المبكرة تظل خط الدفاع الأول عن الحياة.
المتابعة الصحية قبل الحمل وخلاله وحتى الولادة ليست إجراءً طبيًا فقط، بل طوق نجاة. فالاكتشاف المبكر لمشكلات سوء التغذية، وأنيميا نقص الحديد، والسمنة، قد ينقذ حياة كاملة قبل أن تبدأ. وهنا يأتي دور الإعلام، لا بوصفه ناقلًا للمعلومة، بل شريكًا في تشكيل الوعي، عبر أعمال درامية وتوعوية تصل إلى كل بيت.
كنت أظنها جلسة علمية، لكنني خرجت وأنا أدرك أن القضية أكبر من الأرقام والدراسات. إنها قصة طفل لم يختر موعد ميلاده، وأم لا تحلم إلا بأن تسمع صرخة ابنها الأولى وتطمئن.
ومن أجل هؤلاء، نحتاج إلى استثمار حقيقي في وحدات رعاية حديثي الولادة، وتدريب الكوادر الطبية، ودعم الأمهات والأسر نفسيًا واجتماعيًا، وترسيخ مبدأ العدالة الصحية، حتى لا يصبح مكان الميلاد أو مستوى الدخل حكمًا مسبقًا على الحياة.
فالحياة لا تطلب الكثير، فقط فرصة عادلة للبداية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى