بقلم – جويس مارون
ما نشهده اليوم في الساحة اللبنانية من صراعات سياسية يعود لتركيبة المجتمع اللبناني الطائفي، مجتمع ، له عدّة أوجه كلٌّ منها يبحث عن ذاته وكينونته من خلال التحالفات الخارجية واستجداء الخارج؛ فهناك لبنان العربي المسلم السني الذي لا يريد أن يخرج عن عباءة الأمة العربية الواحدة، وهناك لبنان المسيحيين الذي يريد أن تكون ملامحه أوروبية، وهناك أيضاً لبنان الشيعي الذي يرتبط بإيران وبلاد الفرس أكثر من ارتباطه بأمته العربية،
نضف الى ذلك الاحزاب التي شُكِّلت لأبعاد طائفية، وزادت من الاندفاع نحو تشكيلها الصراعات المسلحة التي مرَّ بها هذا البلد، خصوصاً في أواخر القرن الماضي.
فلبنان لم يطوي صفحة المواجهات المذهبية بعد انتهاء الحرب الأهليّة، اذ شهدت البلاد خلال السلم فترات دامية من الاقتتال، بموازاة مواجهات ناعمة في البرلمان والحكومة، حول حصص الطوائف.
وهنا نسأل إلى أي مدى ينازع اللبنانيون بعضهم البعض بسبب الدين أو الطائفة حقاً؟ وهل المشكلة في تعصّب الأفراد لهوياتهم الدينية، أم في مكان آخر؟
وبعيداً عن السجالات الكلامية، ماذا يقول الدستور؟ هل يحقّ لطائفة ما أن تستأثر بمنصب أو وزارة؟
يشير الدستور إلى دور الطوائف في النظام السياسي بصورة مقتضبة وواضحة:
“يشير الدستور إلى المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في مجلس النواب، على أن توزّع المقاعد نسبياً بين طوائف كلّ من الفئتين.
وبحسب المادة 95، تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الحكومة.
أُضيف لاحقاً إلى الدستور مادة تتعلق بتوزيع وظائف الفئة الأولى مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، من دون تخصيص أي وظيفة لأي فئة”.
وعليه، لا نصوص تشير إلى تخصيص المناصب للطوائف في لبنان، في حين أنّ تقسيم الرئاسات الثلاثة على الموارنة والسنة والشيعة، عرف دستوري.
واكثر، اعطى الدستور أيضاً “لكلّ طائفة الحق بإدارة أحوالها الشخصية، واعطى قانون المجلس الدستوري الحقّ لرؤساء الطوائف بأنّ يطعنوا بالقوانين المتعلقة بحرية المعتقد، والأحوال الشخصية”
فالمشكلة اليوم ليست في النصّ الدستوري بحدّ ذاته، بل في اسقاط الزعماء للطابع الطائفي على معاركهم السياسية، لتبرير مصالحهم. علماً أن الدستور يمنع تخصيص أيّ وظيفة لأي طائفة، وذلك ما لا يطبّق.
وبالعودة الى الفقرة الاخيرة من مقدّمة الدستور اللبناني ،تشير هذه الفقرة بوضوح إلى أنّه لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، من دون تحديد ماهية هذا الميثاق بشكل واضح والمقصود “حفظ للتوازن بين الطوائف” عملياً .
للاسف هناك سوء فهم لطبيعة الدستور، بسبب منظومة الزعامة التي كرّست أعرافاً وممارسات زبائنية لحماية مصالحها، متذرعةً بقوانين وحجج دستورية غير موجودة واعتياد السلطة السياسية التلاعب بالدستور . والمطالبة اليوم بدولةٍ مدنية اشبه بخديعة جديدة وذلك لكون الدستور مدنيّ، فوجود الطوائف لا يعني أنّ الدولة غير مدنيّة خاصةً وانّ الدولة هي التي تصدر القوانين التي تحدّد صلاحيات الطوائف.
واكثر بعد ، بحسب الدستور، الدولة في لبنان مدنية، لأن السيادة للشعب، وكلّ التشريعات وضعية، وليست دينية. حتى قوانين الأحوال الشخصية تحصل على موافقة مجلس النواب. فالنظام اللبناني مؤسساتي قانوني يؤمّن تمثيل الطوائف، ومشكلتنا اليوم تتلخّص بأنّ الزعماء يضعون ذرائع طائفية لسطوتهم السياسية.
واخيراً رغم وجود شعور طائفي وانقسامي عام، الا انّ التحديات التي تواجه لبنان أكبر بكثير من مجرد تقاسم حصص وزارية وعرقلة تشكيل حكومة والدفاع عن حقوق الطوائف ، خاصةّ وانّ الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت لبنان بعد انفجار بيروت مختلفة تماما عن تلك التي شهدتها البلاد خلال عام ٢٠١٩، والتي كانت تشبه في أوجه كثيرة الاحتفالات الكرنفالية لشباب يتوق للحرية والتغيير، رغم بعض الاشتباكات وحوادث العنف التي شابتها هنا وهناك الاّ أن هذه المرة قد تكون المواجهات دموية .
في هذا المشهد، يبدو الجيش اللبناني المؤسسة الوحيدة التي توحد اللبنانيين لأنها تضم جنودا من كل الطوائف الدينية. ولا يزال الكثيرون يعتقدون بأن الجيش يبقى حصنهم الأخير في مواجهة الانهيار الشامل، ما يفسر ارتباطهم الرمزي القوي بهذه المؤسسة، رغم أن الجيش يُستخدم أحيانًا لقمع الاحتجاجات وبوحشية شديدة. ومع ذلك فإن هناك خوفا من انهيار هذه المؤسسة بسبب الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد. فالجيش تحت الضغط لأنه مطالب في هذه المرحلة بحفظ الأمن في ظروف اقتصادية حرجة.
من هنا ضرورة وضع البلاد على مسارٍ يقوده نحو التعافي .