الكاتب أ / يسري السيد
كم أشتاق إلى الرحيل اليك.. كم أشتاق إلى الجلوس في رحابك… ذهبت اليك منذ سنوات وكنت أظن أن زيارة واحده تكفى ، لكننى أدركت ولكن بعد فوات ألآوان ان هذه البداية كانت كأول رشفه ماء أو مس بقطنة مبللة بماء على شفاه سائر في الصحراء منذ سنوات كاد يهلك من العطش …
ذهبت اليك مثقلا بهمومى وذنوبي وديوني قبل الذهاب إلى بيت الله الحرام ، فشعرت بعظم الهم والجرم .. كيف أتى اليك مثقلا بذنوبي قبل ان أروح بها الى الكعبة ليغفر لى الغفور الرحيم ؟..
قلت فى نفسي ألم يكن الأفضل أن أتى اليه كما ولدتنى أمى ، نقيا من الذنوب والهموم حتى يكون اللقاء خاليا من أى غرض أوعرض أو مرض ..
لا أعرف هل هذا حديث الوجدان أم وسوسه الشيطان خاصة وان الزحام كان شديدا للدخول إلى روضته الشريفه قبل أذان العصر.. عشرات الآلاف يتراصون أو قل يتزاحمون كالطوفان للفوز بموضع قدم فى روضته الشريفه ..
كان الحوار مع صاحب الروضه يستغرقني ، ولا أعرف كم من الوقت مضى وأنا أتخيل المكان بصورته البدائية حين توقف الحبيب بالناقه وقال صلى الله عليه وسلم :دعوها فإنها مأمورة .
وبذلك حُدد مكان المسجد النبوي ومقره النهائي ،
وقول الرسول : دعوها فإنها مأمورة ، تعنى من وجهة نظري أن الأمر سماوي لا دخل للرسول نفسه فيه ،
يعنى الله اختار هذا المكان مثلما اختار البيت المعمور منذ نشأة ألخليقة وجاء سيدنا إبراهيم وولده إسماعيل ليرفعا القواعد .. قال الله تعالى-: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلَ).
وهذا يعنى ان هناك بيتا وله قواعد غمرتها السنين وأراد الله ان يعيد اظهارهم على يد سيدنا إبراهيم وولده إسماعيل.
ورغم تعدد الروايات عن وقت وضع القواعد الأصلية و بناء البيت الحرام فى صورته الأولي ونسبتها الى الملائكة أو أدم أو إبراهيم وولده إسماعيل وما بينهم من روايات ، لكن المهم هنا ان هناك قواعد وبيت تم اعادة رفعها من جديد على يد سيدنا إبراهيم
لكن هنا الوضع مختلف .. جاء الأمر السماوي ليحدد موضع ثالث الحرمين الشريفين و بيد رسولنا الكريم. التنفيذ .
أقف هنا تحوطني الرحمة وللشفاعه والمغفرة التى لا أعرف من أين تأتى نسائمها ، ولكنها تلفني وتتخللني من كل جانب.. لا أعرف كيف بدأت التحليق من مكاني الى هناك الذى لا أعرفه .. الدموع تنساب وتغرق الوجه ولا أعرف كيفية إيقافها ولا سبب هطولها بهذه ألغرارة أصلا ..
وبين هنا وهناك .. وجدتني مدفوعا بطوفان من البشر الى ساحة من المسجد تفصلها الروضه الشريفه ، وهى المساحة المجاورة لقبر ومقام وبيت الرسول ومنبره الذى وقف فيه ليخطط لقيام دولة الإسلام ..
ذوباني فى الطوفان واندفاعي توقف فجأة حين وجدتني مجبرا على التوقف بين جالسين غارقين فى الملكوت .. قلت لأحد الجالسين وأنا بين اجهاد السنين وراحة اللحظة ، بين اليقظه والغفوة : أين الروضه الشريفه ؟
نظر لي بابتسامه رقيقه تتسلل من وجه منير : أنظر الى أسفل قدمك ؟
نظرت .. وحين تأخر رد فعلى ..قال : –
– هذه هى السجادة الخضراء ..!!
تذكرت ان باقي السجاد فى المسجد كان يميل الى اللون ألأحمر أو الطوبى ..تأخر رد فعل للمره الثانيه ، فلم يجد الرجل مفرا من الإفصاح حتى يعود الى ملكوته الذى أخرجته منه ، قالها بأبتسامة العارف الواثق المطمئن: –
– أنت فى الروضة الشريفه
أنتابتنى رعشه وألتفت يمنى فوجدت رجلا أفريقيا لم أكن اشعر به وهو يتابع الحوار وحين سمع أننا فى الحضرة النبوية الشريفه لم نشعر وإلا بكلينا فى حضن الآخر ،والدموع تنساب منا أنهارا ، والله اكبر تخرج منا فى نفس واحد متحشرج يأبى أن يظل فى الصدور ..
أستجمع بقاياي من هنا ومن هناك .. من التاريخ والحاضر .. من الواقع والخيال .. أتحرر منى وأدخل فى ركعتين فى رحاب الحبيب التى أتسعت داخلي على الرغْم من ضيق المساحه التى أخذها جسدي بالعافية ممن حوله الذين حاولوا مدها أمامي بضعة سنتيمترات حتى أستطيع السجود ..
لا أعرف كيف بدأت الصلاه ؟ وماذا قلت ؟وكيف ركعت؟ وكيف سجدت ؟..لكن الذى أدركته فيما بعد أنني كنت فى عالم أخر … لا أعرف كم من الوقت مضى حتى جاء صوت من الميكروفون يطالبنا بأن نعطى أحباب رسول الله الواقفين خارج الروضه فرصه للدخول .. تلكع البعض وأنا منهم على الرغْم من حزم رجال الأمن، لكن الذى حسم الموقف صوت جاء من بعيد لا أعرف من صاحبه ، هل يسكن فى داخلي أم يسكن فى الخارج بقول الرسول عليه الصلاه والسلام : لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه!!
خرجت من الروضه كمن أرتشف أول رشفه بعد عطش شديد من رحلة طويله فى الصحراء، خرجت من الروضه وأنا أسعى للرحله الأخرى رحله الوصول الى قبر الرسول .. أعشم النفس بالأرتماء فى أحضانه أو الجلوس أمامه .. أريد أن أحاوره .. أريد أن أستمع إليه .. أريد ان اسأله .. أشتاق الى إجاباته .. أريد شفاعته .. أريد مسامحته وقد جئته محملا بذنوبي وكنت أود أن أتى إليه متطهرا منها ومتخففا من همومي حتى يكون الحُوَار والزيارة بلا غرض الا حبه.. أريد أن أعرض عليه حالنا وحال المسلمين .. أريد أن أستنجد به مما يدور حولنا .. أتشبث به وبقوله: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) ،
يعنى الناس ، كل الناس من كل دين ولون وجنس تحتاج الى الرحمه وأنت من بعثك المولى رحمة لنا جميعا ..
نظرت من بعيد إلى الممر الذي يؤدى إلى المقام الشريف وجدت الحراس لا يسمحون بالوقوف أمامه .. المرور السريع فقط وإلقاء السلام على الحبيب وصحبه ابو بكر الصديق وعمرين الخطاب
أقول لنفسي.. يعنى جئت من أخر الدنيا حتى تمر من أمامه ولا تجلس أمامه أو تحاوره فى بيته الذى أصبح مستقره .. كيف أسامح نفسى على هذا التقصير ..كان المؤذن قد رفع اذان المغرب وأستعد المصلون للصلاه وحين شعرت بفقدان الأمل وخف السائرون إليه قلت فى نفسى أذهب اليه وأتباطئ أمامه مستغلا قلة أعداد السائرين أمامه من أى وقت آخر .. سرت اليه وأنا أحادثه :
جئتك من هناك وأتمنى الجلوس الى جوارك ولكن يبدو ان الحلم صعب المنال ..
حين أقتربت منه غمرني النور وأنهمزت الدموع كالطوفان , تحسست جدران مقامه بيدى المبللة بالدموع وصوت متحشرج لاأدركه وولاأفهم مفرداته بل يصعب عليه حتى نطق حروفي.. ليس مهما أن ينطق لغايا .. مابينى وبين الحبيب تواصل لاتعرفه لغة أو أشاره .. وفى غمرة هذا التحليق بين الأسوار والواقع ، بين الهنا وهناك ، جاء صوت المؤذن لإقامة الصلاة ، فأرتفع صوت الحراس: كل يصلى فى مكانه
فوجدتني أقف وخلفي قبر الرسول مباشره وكأن الحبيب رفض وأبى أن يردني من أمام بابه واستضافني لدقائق أخرى تمتد طوال الصلاة ، وكأن المولى عز وجل قد رد على حبى لرسوله بحب أشد ، جمعني به فى الصلاة وفى رحاب حبيبه المصطفى !!