عبد الوهاب عدس
تعالوا نستكمل روحانيات رمضان .. التى بدأناها بالمقال السابق .. نتحدث هذه المرة .. عن قوة الإيمان واسراره .. وما يصنعه فى قلوبنا .. وكما قلت من قبل .. لست فقيها فى الدين .. لكنى اقدم لكم خلاصة ما قرأته مع تصرف منى .. امامى كتاب مع النبى للكاتب الكبير قس بن ساعدة .. والذى اطلق على نفسه أدهم الشرقاوى .. وهو يكشف لنا عجائب الإيمان .. حيث يقول : مهما عاش الانسان فى الفساد بعيدا عن الله .. وفى لحظة واحدة .. يمحو الإيمان بإرادة الله كل شئ .. حتى اننا نعتقد ان هذا الإنسان .. لم يعرف الفساد او الضلال طوال حياته .. فقد حوله الإيمان الى انسان آخر تماما .. فهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام .. توقد له النيران ويلقى فيها .. ومع ذلك لم يتزعزع إيمانه .. انها لحظة الإيمان .. وهؤلاء سحرة فرعون .. جاء بهم من كل ارجاء مصر .. بناء على معرفته السابقة بهم .. يعملون بأمره ويتصرفون رهن اشارته .. وفى لحظة ايمان .. خروا جميعا ساجدين مؤمنين برب موسى وهارون .. يهددهم فرعون بقطع ايديهم وارجلهم من خلاف وبصلبهم فى جذوع النخل .. لم يلينوا أو يخضعوا لفرعون أو يتأثروا بتهديده .. فقد غيرهم الإيمان فى لحظة .. ليقولوا لفرعون : افعل ما تريد .. وعلقهم فرعون على جذوع النخل .. ومع هذا لم يتحولوا عن إيمانهم .. اسمحوا لى ان اصطحبكم .. فيما رواه احمد فى مسنده .. ان رسول الله صلى الله عليه وسلم .. قال : لما كانت الليلة التى أسرى بى فيها .. أتت على رائحة طيبة فقلت : يا جبريل ماهذه الرائحة ؟ فقال : هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها .. قلت : وما شأنها ؟ قال جبريل : بينما هى تمشط شعر ابنة فرعون .. ذات يوم .. إذ سقط المشط من يديها .. فقالت : بسم الله .. فقالت لها بنت فرعون تقصدين بالله أبى .. فقالت لها فإن ربى ورب ابيك هو الله .. قالت لها بنت فرعون : أخبر أبى بذلك ؟ قالت لها الماشطة : نعم .. فأخبرته .. فدعاها فرعون قائلا : ألك ربا غيرى ؟ فردت الماشطة : نعم ربى وربك هو الله .. فأمر فرعون بإعداد برميل من النحاس .. ووضع تحته النار .. حتى اصبح لهيبا .. لا يستطيع أحد الاقتراب منه .. أمر فرعون أن تلقى هى وأولادها فيه .. قالت له الماشطة : لى عندك طلب .. قال فرعون : وما طلبك ؟ قالت : ان تجمع عظامى وعظام اولادى فى ثوب واحد وتدفننا سويا .. قال فرعون : لك ذلك .. وأمر فرعون بإلقاء أولادها فى نيران البرميل واحدا واحدا .. انها لحظة صدق مع الله .. فالايمان عندما يغزو القلب .. يتحول صاحبه من إنسان مادى .. الى جبل لا يركع .. ولا يلين .. وهذا شأن المؤمنين حقا فى كل العصور .. أسيا المرأة الرقيقة .. تصبر على صلبها .. والماشطة الضعيفة .. لا تهتز ولا تلين .. وبلال مؤذن رسول الله .. لا تهزمه رمال مكه الملتهبة .. ولا يلين امام الصخرة التى وضعها أميه بن خلف على صدره .. إنما صوت واحد لا يتوقف من بلال : أحد .. أحد .. فى مواجهة العذاب .. ماذا حدث ؟ بعد ان طالت أيام عذاب بلال .. فقد كان عبدا عند أميه بن خلف .. وكان يعذبه أمام الكعبة على مرأى ومسمع من أهل مكه يوميا .. قال له أميه : يا بلال .. قد أتعبنى تعذيبك .. فقل جملة واحدة .. أمام الناس .. انك لست على دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له بلال : إن الحق اذا تزحزح عن مكانه .. بطل اى اصبح باطلا .. واستمر أميه يعذب بلال .. حتى اعتقه ايو بكر الصديق .. وانقذه من عذاب أميه .. ليصبح مؤذن رسول الحق صلى الله عليه وسلم .. ويرتبط صوته بنداء الحق سبحانه .. خمسة مرات كل يوم .. وعندما سألوا بلال .. بعد ان سطع نجم الإسلام .. كيف كنت تصبر على كل هذا العذاب .. فقال : كنت اخلط حلاوة الإيمان بمرارة العذاب .. فأصبر .. انظروا ماذا فعل فرعون بزوجته .. وهى المرأة المنعمة التى اعتادت على العز والدلال .. وضعها على لوح من خشب ودق الاوتاد فى يديها ورجليها .. وقبل ان تسلم الروح .. فوجئ فرعون بأنها تبتسم .. كما يقول ابن كثير فى تفسيره .. فيجن فرعون ويقول بأعلى صوته .. بعد كل هذا العذاب تبتسمين ؟ لكنها لم تسمعه .. فقد شغلها الله .. بشئ آخر .. جعلها تبتسم فقد أراها الله .. البيت الذى سألته إياه فى الجنة .. مع العلم بأنها كانت زوجة الإله الذى يعبد من دون الله .. تأمر فتطاع ولكنها لحظة الإيمان .. انها لحظة صدق مع الله .. فقد رأت ان الغنى الحقيقى هو غنى الانسان بربه .. وإن كل البيوت مقارنة بالجنة ضيقة .. واستجاب ربها .. بما طلبته .. ببيت فى الجنة .. كأنها تقول لفرعون .. خذ كل ملكك واتركني لربى .. وهكذا يجعل فرعون ألوف النساء تسجدن له .. لكنه عجز عند إمرأته .. الأكثر من ذلك .. ان من القصر الذى قال فيه فرعون : انا ربكم الأعلى .. خرج نبى .. ومن غرفة نومه خرجت أعظم النساء فى التاريخ .. ذبح آلاف الاطفال بحثا عن موسى ولما عثر عليه .. رغما عنه .. رباه فى قصره .. ويبقى دعاء آسيا زوجة فرعون : رب ابن لى عندك بيتا فى الجنة ونجنى من فرعون وعمله ونجنى من القوم الظالمين .. دعاء مستجاب .. فقد كشف الله سبحانه لها عن بيتها فى الجنة .. ولنتذكر دائما .. كيف خرج النبى صلى الله عليه وسلم من مكه خلسة تحت جنح الظلام .. ثم دخلها فى وضح النهار من أبوابها الأربعة .. ودخل يوسف السجن مظلوما .. وخرج منه عزيز مصر .. من هنا أقول .. الناس أعجز من ان يلحقوا ضررا .. لم يأذن به الله .. أو ان يجرو نفعا لم يأذن به الله .. فليس أمامنا إلا ان نعلق قلوبنا بالله .. فكل مشاكل الأرض .. حلها فى السماء .. وقد يرفع الله سبحانه البلاء عن بعض الناس .. لأنه يعلم انهم لا يصبرون على البلاء .. وهذا من فضل الله وكرمه .. بقى ان اقول : ان لحظة الصدق مع الله .. وحسن الظن بالله .. اعظم اسرار الإيمان .. انها تصنع المستحيل .. انها من تقوى القلوب .. والقلوب بين أصابع الرحمن .. يقلبها كيفما شاء .. فاللهم ثبت قلوبنا على دينك .