عبد الوهاب عدس
نعيش هذه الأيام روحانيات الحج .. وما اعظمها من رحلة .. نظل طوال حياتنا نحلم بها .. وندعو الله أن يكتبها لنا .. فالحج يعكس حقيقة الإيمان .. ولا احد يدرى حجم قوة الدفع التى يستمدها المسلم من دينه .. ليترك الدنيا كلها .. ذاهبا الى الرحمن .. طالبا غفرانه ورضاه .. وقربه .. لا يحمل فى قلبه سوى الدعاء .. أمنيته الوحيدة ان يتقبله الله .. قرأت العديد من الكتب عن الحج .. ولكنى اعترف بان اعظم ما قرأته .. كتاب : الطريق إلى مكه .. الذى كتبه الفريد هوفمان .. وهو المانى مسلم .. عمل سفيرا لألمانيا فى الجزائر وتركيا والمغرب .. وأصبح اسمه بعد اسلامه مراد هوفمان .. وقد خيره البرلمان الألماني ( البوندستاج ) بين الإسلام والعودة للعمل اداريا او منصب السفير بمقر وزارة الخارجية .. فاختار الإسلام وعاد موظفا اداريا .. تاركا ابهة وبغددة منصب السفير .. ويتفرغ مراد هوفمان للعمل بأكبر مركز اسلامى فى اوروبا بالمانيا .. كداعية للإسلام .. ويتولى تنظيم رحلة الحج ويقف داعيا على عرفات والجميع خلفه يؤمنون ” آمين ” ويقول مراد هوفمان .. انه درس الإسلام لمدة ٢٠ عاما لم يترك شيئا عن الإسلام .. إلا وقرأه وبتعمق .. حتى آمن به .. يصف لنا مراد هوفمان سفير المانيا الأسبق فى المغرب .. رحلة الحج التى أداها لاول مرة فى عام ١٩٩٢ .. يقول : عندما بدأت الطواف حول الكعبة .. التى يتجه لها مليار ونصف من البشر فى صلواتهم يوميا .. لم يغب عن خاطرى طوال الطواف اننا نتوجه إلى الله .. واضفت دعاء شخصيا : اللهم اجعل الحق حقيقتى الشخصية .. تذكرت ان هذا البيت كان فى سنوات محمد مليئا بالاصنام ومن بينها تمثالان : أحدهما للمسيح والآخر لمريم .. اى انه كان يعكس تعددا دينيا اقتصاديا ناجحا ومذهلا .. لقد كانت مكه آنذاك مركزا تجاريا عالميا .. اما اليوم .. فهى مركز حج عالمى .. تستقبل فى الاشهر الحرم اى انسان .. بينما لا تستقبل اليوم سوى المسلمين من ارجاء العالم كافة .. ويضيف مراد هوفمان : لم يكن من اليسير .. والحجاج يتدافعون ويتزاحمون .. ان تعى رمز المكان وان تحتفظ بروحانية الفعل .. وبالرغم من هذا الزحام الشديد .. كانت هناك عجائب وآيات من التسامح والرحمة .. فهذا حاج سعيد يطوف حول الكعبة على عكازين .. يمنعه كبرياؤه .. وربما فقره .. من ان يحمله احد الزنوج الأقوياء .. أو يدفعه احد على كرسى متحرك .. ويحيطه الحجاج بالعناية والحذر حتى لا يقع .. وهنا يقفز السؤال : كيف استعد مراد هوفمان .. للحج .. كيف ؟ ماذا فعل ؟ يقول : انه قرأ وصفا تاريخيا للحج لريتشارد بيرتون Richard Burton فى كتابه رحلة الحج .. كما قرأ رحلة حج الى مكه لفون مالنزان هانريش والذى اصبح اسمه الشيخ إبراهيم بن عبدالله بعد اسلامه .. بالاضافة الى دراسة آيات القرآن المتفرقات عن الحج وبصفة خاصة فى السورتين ( البقرة والحج ) .. وكذا احفظ أحاديث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) التى تتناول الحج .. وكان مراد هوفمان يرفع اذان الإقامة عند كل صلاة جماعة .. يصف مراد هوفمان الحج بقوله : لا يمكننا القول ان الإحرام يشير الى الموت .. وان الطواف يسلم المرء الى الله .. أليس السعى ارهاقا وتعبا ؟ أليست زمزم هى الحياة ؟ ويوم عرفه .. الا يجعلنا نتوقع يوم القيامة ؟ والمزدلفة .. أليست هى الظلام الذى يسبق اليوم الجديد ؟ ومنى .. الا تمثل الوفاء من خلال نحر الاضحية ؟ وخلع ملابس الإحرام بمنى .. الا يعنى حياة جديدة ؟ ورمى الجمرات .. الا يرمز لكفاح مدى الحياة ضد كل ما هو شر ؟ لكن الله هو محور الحياة .. ويصف لنا الألماني المسلم مراد هوفمان .. الوقوف بعرفه .. كما عاشه قائلا : عايشت هذا التوجه الكامل إلى الله بكل هذا الصفاء الداخلى الباهر .. فلا شئ يوم عرفه سوى مناجاته .. وهنا يتجدد نداؤنا الدائم : لبيك اللهم لبيك .. هذا هو معنى الوقوف بين يدى الله بعرفه .. وهنا يقفز الى ذهن مراد هوفمان .. خطبة رسول الحق صلى الله عليه وسلم من هذا المكان .. يوم خاطب المسلمين قائلا : انى تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا ابدا : كتاب الله وسنتى .. وانى مسائلكم يوم القيامة فيما انتم فاعلون .. وهنا اجابة الحاضرين : نشهد انك أديت الأمانة .. وبلغت الرسالة .. ونصحت الأمة .. وهذا نفسه هو ما اشهده اليوم مع اكثر من مليونين ومائتى الفا من مختلف أنحاء العالم .. تعمدت ان اتحدث عما فى ذهن رجل المانى اعتنق الإسلام .. يؤدى فريضة الحج .. وقد اشهر اسلامه فى عام ١٩٨٠ .. وذهب للحج بعد ١٢ سنة من اسلامه .. يقول : لم أكن مسلما فى تفكيرى فقط .. إنما ايضا فى سلوكياتى .. ويقول : من يعى ويدرك المعنى الحقيقي لوجود الله .. ستكون لديه الرغبة فى التوجه إلى الله .. وبذلك يصير ما يردده المسلم : اياك نعبد وإياك نستعين .. حقيقة واقعة .. وهكذا يصبح الحج انعكاسا صادقا لحقيقة الإيمان .. اللهم بلغنا يوم عرفة .. وتقبل من الحجيج واكتبها لكل مشتاق .