الكاتب أ / محمد أبو الحديد
فى رأيي، أن أهم ملف عربى يجب الالتفات إليه واستدعاؤه على الفور، فى ضوء المتغيرات القائمة والمحتملة فى عالمنا العربى الآن هو ملف: الأمن القومى العربي..
وبالتحديد.. كيف ننشئ ونبنى نظاماً للأمن العربى الذاتى الجماعى ليكون سلاحنا فى مواجهة ما ينتظرنا من تحديات.
وأياً كانت الصعوبات التى سوف تواجهنا بالتأكيد فى رحلة البحث عن هذا الملف واستحضاره، إلا أن هذا لا يجب أن يثنينا عن العثور عليه ووضعه على مائدة الاهتمام.
إن العالم العربى يواجه اليوم «تهديدات وجودية» غير مسبوقة.. وأقول العالم العربي، وليس فلسطين وشعبها الأبى الصامد فقط.
لقد كتبت وكتب غيرى كثيرون خلال الأسابيع الماضية منذ بدء إسرائيل عدوانها الوحشى على الشعب الفلسطينى فى غزة والضفة، عن «المخطط الذى أحبطته مصر» والذى أطلق نتنياهو رصاصته الأولى حين أعلن أن حربه ضد حركة حماس «ستغير الشرق الأوسط كله».
وحين كرر الحديث عن تهجير الفلسطينيين، قسراً أو طوعاً، من غزة وتوطينهم فى سيناء والأردن، دون أى اعتبار لكون مصر والأردن دولتين ذاتى سيادة، ودون اهتمام بأنهما كانتا أول دولتين عربيتين توقعان معاهدتى سلام مع إسرائيل.
ولقد قلت فى مقال الخميس السادس والعشرين من أكتوبر الماضي، أى مع بداية الأسبوع الثالث من الحرب الإسرائيلية على غزة، إنه رغم إحباط مصر لهذا المخطط، إلا أن هذا لا يعنى أنه تم طى صفحته، فمازال الموقف مفتوحاً على كل الاحتمالات.
وأياً كانت هذه الاحتمالات، فإن «نية العداء» من جانب إسرائيل لمصر والأردن قد باتت أكثر وضوحاً من أى وقت مضى منذ إبرام معاهدتى السلام، كما أن رغبتها فى السيطرة على الشرق الأوسط، رغم عجزها حتى الآن عن السيطرة على قطاع غزة وحده، لن تتوقف، وعلينا أن نتوقع جولات أخرى قادمة بأشكال مختلفة، وفى مواقع متفرقة.
ولا مستقبل لنا كعالم عربي، وشعوب ودول تعيش على أرضه، دون أن يكون لدينا نظام أمن جماعى ذاتي.
وفى رحلتنا للبحث عن ملف الأمن القومى العربي، سنجد أنفسنا أمام سؤال ممتد على مدار سبعة عقود وأكثر يقول:
> لماذا لم تنجح كل محاولاتنا لبناء منظومة أمن جماعى عربي، وما نجح منها لم يكتب له الدوام إلا قليلاً لينفض بفعل فاعل، ظاهر أو مستتر؟!
وربما يستدعى هذا السؤال سؤالاً آخر شديد الارتباط به وهو:
> لماذا فشلت كل تجارب الوحدة أو الاتحاد ـ ثنائية كانت أم جماعية ـ التى ظهرت على المسرح السياسى العربى خلال تلك العقود السبعة الأخيرة؟!
فى مجال الأمن القومى العربي، كانت هناك اتفاقية الدفاع العربى المشترك الموقعة فى إطار جامعة الدول العربية عام ٠٥٩١.
وقد تم اللجوء لهذه الاتفاقية فى عدة مناسبات، منها الاشتباك العراقى الكويتى فى مطلع ستينيات القرن الماضي، وإنشاء قوة ردع عربية للمساعدة على وقف الحرب الأهلية فى لبنان فى منتصف السبعينيات، وفى حرب تحرير الكويت من الغزو العراقى فى مطلع التسعينيات.
الاتفاقية لا تزال قائمة ـ نظرياً ـ وغير قابلة للتفعيل ـ عملياً ـ بسبب متغيرات جوهرية حدثت على الأرض فى العالم العربى تحول دون تفعيلها.
وكانت هناك قيادة عربية موحدة أنشئت فى القمة العربية التى عقدت فى القاهرة برئاسة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر عام ٤٦٩١ لمواجهة محاولة إسرائيل تحويل مجرى نهر الأردن، وانتهت.
وكان هناك ما سمى «إعلان دمشق» بين مصر وسوريا ودول مجلس التعاون الخليجى والذى تم توقيعه فى مارس عام ١٩٩١ عقب تحرير الكويت لاستعادة مفهوم الأمن القومى العربى بعد الشرخ الذى أحدثه به الغزو العراقى لدولة عربية شقيقة وجاره، وضمان عدم تكراره.. لكن الإعلان لم يعش سوى أربعة شهور فقط.
وفى حرب أكتوبر قبل نصف قرن، توهج ـ للمرة الأولى والأخيرة للأسف ـ مفهوم الأمن القومى العربى الجماعى وكذلك التضامن العربى بصورة عملية رائعة، ممثلاً فى التخطيط المصرى السورى المشترك للحرب تحت مظلة اتفاقية الدفاع العربى المشترك، ثم المساهمة العسكرية الميدانية الرمزية من عدد من الدول العربية فى الحرب فى مقدمتها السعودية والعراق والجزائر وليبيا والمغرب، فضلاً عن استخدام الدول العربية البترولية بقيادة السعودية للبترول كسلاح فى الحرب بقطع إمداداته عن الدول المؤيدة لإسرائيل.
وفى القمة العربية التى عقدت بمدينة شرم الشيخ فى مارس ٥١٠٢ برئاسة مصر، قدم الرئيس السيسى مشروعاً مصرياً لإنشاء قوة دفاع عربية مشتركة من الدول العربية التى توافق على المشروع، ولقى المشروع استجابة وتأييداً كبيرين من الشارع العربي، لكنه رغم استحضار مظلة اتفاقية الدفاع العربى المشترك، وعقد اجتماع للهيئات العسكرية المنبثقة عنها وفى مقدمتها هيئة رؤساء أركان حرب الجيوش العربية، فإن المشروع لم يظهر للنور.
وظهر ما سمى بـ «الحلف الإسلامي» بقيادة السعودية ومشاركة مصر، وانضمت إليه أيضاً باكستان، وتوارى بعد فترة من ظهوره.. كما ظهر «تحالف الشرعية» لمحاربة الحوثيين فى اليمن، وانفض أو تراجع دوره بعد التهدئة التى تم التوصل إليها هناك.
حدث ذلك فى عالمنا العربي، بينما شهد العالم، فى نفس الفترة ظهور حلف الأطلنطى بزعامة الولايات المتحدة وعضوية دول أوروبا الغربية خلال فترة الحرب الباردة، ثم حلف وارسو برئاسة الاتحاد السوفيتى قبل سقوطه وضم دول أوروبا الشرقية، وأنشئت منظمة الوحدة الأفريقية التى تحولت إلى الاتحاد الأفريقى الحالى وأنشأت نظاماً دفاعياً ومجلساً للسلم والأمن على مستوى القارة، فضلاً عن تنظيمات دفاعية إقليمية محدودة فى دول شرق وجنوب شرق آسيا، وكلها مستمرة حتى الآن.
وفى مجال الوحدة العربية حدث ولا حرج، ابتداء من وحدة مصر والسودان التى انتهت بعد قيام ثورة يوليو فى مصر، ووحدة مصر وسوريا وانفصلت بعد أقل من ثلاث سنوات، ووحدة شمال اليمن وجنوبه، والتى تعانى الآن فى وجود الحوثيين، والاتحاد العربى بين مصر السادات وسوريا حافظ الأسد وقذافى ليبيا والتى لم تدم طويلاً ولم يبق من أطلالها سوى «شركة الاتحاد العربى للنقل» التى تتولى تسيير الأتوبيسات السوبر جيت بين محافظات مصر.
التطلع إلى وحدة عربية، شاملة أو جزئية الآن قفز إلى المجهول.. لكن بدء التفكير فى إنشاء ولو «نواة» مبدئية لنظام أمن قومى عربى جماعى يمكن أن يكون أمراً واقعياً وقابلاً للمضى على طريق تنفيذه، خاصة وأن الرأى العام العربى مهيأ الآن لاستقبال هذه الفكرة وأن يلعب دور «قوة الدفع» لها.
أعرف أننا لو طرحنا السؤالين الواردين فى بداية هذا المقال فى استطلاع رأى بين شعوبنا العربية، عن أسباب عدم نجاح محاولاتنا لبناء منظومة أمن جماعى عربي، وفشل كل تجاربنا الوحدوية بلا استثناء، بحيث لم يبق لنا من حصاد العقود السبعة تنظيمات إقليمية يتلامس دورها حتى مع مفهوم الأمن القومى العربي، سوى جامعة الدول العربية، ومجلس التعاون الخليجي، بينما تجمد الاتحاد المغاربى الذى يضم دول الشمال الأفريقى العربية بدءاً من ليبيا شرقاً إلى موريتانيا غرباً، مروراً بتونس والجزائر والمغرب.
أقول لو طرحنا السؤالين فى استطلاع للرأى العام العربى لكانت إجابة نسبة غير قليلة من المشاركين هي:
ـ ابحث عن.. إسرائيل.
هكذا نعود لنقطة البداية وهى ما يجرى على الأرض الآن.. ونسأل:
> وأين الإرادة السياسية الجماعية العربية؟!
ونسأل:
> كيف يكون التهديد الوجودى لنا دافعاً للاستسلام وليس دافعاً لإنشاء منظومة للقوة الشاملة تحمى أمننا القومي؟!